Friday, March 6, 2009

مصر في حارة: 19



فهيمة رضوان

" 19 "


كان الطقس الصحو يؤذن بمولد فصل الربيع

أشعة الشمس حانية مثل يد أمٍ تهز مهد وليدها حتى ينام، ونسمات منعشة تلامس الوجوه كأنها قبلة يطبعها عاشق أربكه الخجل، وأشجار تهتز كأنها تستمع إلى لحن مؤثر

استيقظت فهيمة باكراً قبل والدتها سنية وشقيقها حمدان, في حين كان الأب رضوان قد انصرف إلى العمل كعادته مع خيوط الصباح الأولى
وبعد نحو ساعة من استيقاظ الأم، فاتحتها فهيمة في أمرٍ قائلةً:
- نينة, كنت أريد أن أزور حسين اليوم .. لابد أنه يشعر بالوحدة. إنه يجلس بين أربعة جدران, كأنه معزول عن العالم
- اذهبي يا حبيبتي, وقولي له إني كنت أود أن أزوره معك، لكني أشعر بألم في ظهري و لا أستطيع أن أتحرك بشكل جيد
- شفاك الله يا أمي.. سأخرج الآن حتى أعود في وقت مناسب
- انتبهي إلى نفسك جيداً يا ابنتي
بدت فهيمة كأنها تخرج من قوقعتها التي انعزلت فيها لفترة طويلة..خروج كأنه محاولة لتنفس هواء الشارع، بعد أن حبست نفسها طويلاً في المنزل
طوال الرحلة في سيارة الأجرة التي استقلتها حتى منزل أخيها في العجوزة، كانت فهيمة تبتسم كلما داعبت نسمات الهواء خصلات شعرها الذي أخذ يتمرد ويتطاير في نعومة في كل اتجاه

كم يفتن الهواء فتاة تضحك في حضور زهرة شبابها

نظر سائق سيارة الأجرة إليها بطرف عينيه عبر المرآة الأمامية، فوجدها تفتح نافذتها أكثر ليجد الهواء طريقه إلى شعرها وخديها، قبل أن يهز رأسه متعجباً، وهو الذي اعتاد على رؤية هذا التصرف من كثير من زبائنه
لدى وصولها إلى شقة حسين، ضغطت بإصبعها على جرس الباب ضغطة متقطعة، حتى فتح لها أخوها ورحب بها بابتسامة مسكينة وقد بدا عليه الحزن. نظرت إليه فوجدته مطرقاً إلى الأرض وقد شق جبينه خط الألم. بدت شعيرات ذقنه وقد نبتت، كأنه أهمل حلاقة ذقنه منذ أيام
أخذت فهيمة تتحدث إليه عن أشياء وتفاصيل صغيرة، تلخص فيها أحوال الحارة والأهل والجيران.. تقفز من موضوع إلى آخر مثل سنجاب في غابة. ولوهلةٍ، أحست أنها تكرر نفسها وأن الجمل التي تجري على لسانها قيلت من قبل، حتى بدأ الملل يتسرب إلى نفسها. كانت تحاول بدأبٍ شديد مداواة جراح أخيها لكن الجرح بدا عميقاً ويحتاج إلى وقت طويل حتى يندمل. وما إن أخذت تفكر في العودة إلى بيتها حتى سمعت طرقات الباب، كان مصدرها طاهر. استأذنت فهيمة في الانصراف، لتعود إلى منزل العائلة
بعد دقائق من انصرافها، قال طاهر لحسين بلهجة مترددة:
- حسين, كنت أريد أن أفاتحك في موضوع
- خير, إن شاء الله!
- تعرف أني في الثامنة والعشرين الآن,ومنذ فترة بدأت أشعر بأن الوقت قد حان كي أستقر، فأتزوج و أبني لي عائلة.
- إذاً؟
- الحقيقة, لقد فكرت أول ما فكرت في أختك
- فهيمة؟
ضحك طاهر قائلاً:
- ألديك أي أخت أخرى؟
- والله أنت شاب طيب ومناسب, ولكن يجب أن نأخذ رأيها أولاً. إن الدنيا تمشي هكذا الآن
- خذ وقتك .. ولكن ما رأيك أنت؟ هل أنت موافق؟
- طبعاً, فلن نجد خيراً منك لكي يكون زوجاً لأختي
ابتسم طاهر وقد ملأه السرور, فأخذ يشكر حسين المرة تلو الأخرى و كأنه حقق له أمنية حياته, في حين أخذ حسين يستمهله حتى تقول فهيمة رأيها..وربما دارت في ذهن حسين في تلك اللحظة صور متداخلة عن شخصية أخته التي تتعالى في غطرسة على كل من يتقدم لطلب يدها للزواج
في صباح اليوم التالي, وكان يوم جمعة, كانت السماء الصافية تبعث على الارتياح واعتدال المزاج. قصد حسين منزل العائلة حتى يفاتح فهيمة والأبوين في موضوع طاهر. وبكلمات بطيئة ونبرة هادئة، أخذ حسين يحدث أبويه في حضور فهيمة عن طلب صديقه طاهر. وحين طلب رأيها بدت فهيمة صارمة وحادة كعادتها, فسألته قائلة:
- طاهر شاب ممتاز .. لكنه ليس فتى أحلامي
- يا فهيمة، طاهر مهذب ومحترم وسيكون له شأنٌ كبير في المستقبل.. وظيفته جيدة وهو لا يخلو من وسامة. إنه شخص عصامي بنى نفسه بنفسه على الرغم من كونه يتيم الأبوين
وبعد نقاش مطول، لان موقف الفتاة قليلاً، فعادت لتقول:
- عموماً، أنا أثق في أنكم تريدون لي كل ما هو جيد.. وسأقبل في النهاية برأي ومشورة أبي
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه رضوان, وقال بحماسٍ ظاهر:
- شخصياً، ليس عندي مانع.. أنا موافق. على الأقل نحن نعرف أخلاق وشخصية هذا الشاب, فهو محترم ومهذب , ولديه عملٌ مناسب ودخلٌ مادي جيد. المهم أنتِ.. ما رأيك أنت يا فهيمة؟
نظرت فهيمة إلى أمها سنية, فقالت الأخيرة بحنانها الذي لا تتخلى عنه:
- ليتني أفرح بك مع شاب مثل الورد, كطاهر

حاولت فهيمة أن تخفي طيف ابتسامة على وجهها قبل أن تقول:
- إذاً، رأيي مثل رأي أبي وأمي
ابتسم حسين, ثم قال ببهجة كان يفتقدها منذ مدة طويلة :
- على بركة الله
أطلقت سنية زغرودة أيقظت فضول نساء الحارة, اللاتي سارعن إلى الاستفسار والسؤال عن النبأ السعيد، فلما عرفنه تبادلن التهاني مع سنية وشاركنّها الفرحة بإطلاق مزيد من الزغاريد

وما هي إلا أشهر حتى زفت فهيمة إلى طاهر, في حفل جمع بين البساطة والأناقة معاً. تحدث أهل الحارة طويلاً عن حفل الزفاف, وعن جمال فهيمة التي تألقت في ثوبها الواسع الأبيض الأنيق, وهي إلى جوار عريسها الوسيم طاهر


سكن الزوجان في شقة أنيقة في منطقة معروفة بأشجارها الوارفة الظلال، كأنها تلقي بظلالها على سكان الحي

No comments: