Saturday, December 23, 2006

مصر في حارة: 5





سرور الدمياطي
" 5 "
هو الرجل الأول في الحارة: بائع فول

لا أحد يستغني عنه فهو الممول الرئيسي لمائدة الإفطار وربما العشاء لأهالي الحارة.. ما يقدمه لهم ليس مجرد وجبة رئيسية بثمن يمكن أن تتحمله جيوب كثيرين منهم، بل إنها أيضاً وجبة شهية وشعبية ترتبط في الأذهان بالشبع والستر
لكنه يظل إنساناًً رقيق الحال.. فلا هو من كبار الحارة مكانةً ولا مالاً.. ولذا فإن مجده يستمر بضع سويعات هي سحابة النهار.. بعدها يأفل مجده وينخفض صوته الذي ينادي به مع ساعات الصباح الباكر "فووووووووووول.. البليلة"
فإذا حلت ساعة الظهيرة انسحب سرور الدمياطي إلى عالمه المتواضع وفي عينيه نظرة حياء تمتزج بالرضى كأن الدنيا كلها لا تستحق اهتمامه. نظرة لا تخطئها العين وهو يراجع ما تبقى من قدر الفول الذي ظل طوال النهار يغترف منه في أطباق زبائنه أو يعبئه لزبائن محتملين في أكياس

ملكوته الخاص هو أكياس الفول والشطة والطعمية وقليل من المخللات وحبات البصل والليمون، إضافة إلى حساء البليلة الذي له زبائنه.. عالم هاديء ووديع بلا منغصات

وسرور الدمياطي هو ذاك الفتى اليتيم المسكين الذي يقف على أعتاب السابعة عشرة, وهو مسئول عن أخته سماح التي لم تتجاوز سن العاشرة.. نشأ وترعرع في حارة الشرف وتعلم من أهلها معنى الشهامة وحسن الخلق..توفي أبوه في حادث سير أليم، وأصابت الصدمة والحسرة الأم فلم تلبث سوى شهور قلائل حتى فاضت روحها إلى بارئها

وبالرغم من أنه لم ينل قسطاً كافياً من التعليم حيث لم يكمل دراسته الابتدائية، فإن نباهته لم تكن خافية على أحد، إذ رأى كثيرون أنه سريع التعلم فضلاً عن أخلاقه الرفيعة.. غير أن البعض أخذ عليه عدم المبالاة التي خالطت سلوكياته ومواقفه.. لكن الفتى ذا البشرة السمراء الداكنة والشعر القصير المجعد أحب الحياة حباً جماً لسبب غامض. تركيبة بشرية لفتت انظار أهل الحارة ممن رأوا في سرور حالة فريدة لا تشبه سواها

وربما أبدى البعض استغرابهم لحرص سرور على مطالعة نسخ قديمة من الصحف كلما وقع نظره عليها.. كما حار البعض في تفسير سبب اقتطاعه جزءاً من قوته اليومي المحدود ليتردد بين فترة وأخرى على بائع كتب مستعملة في آخر الحارة كان يبيع روايات وأعمالاً لكبار الكتاب وترجمات لأدباء أجانب بأسعار زهيدة

وذات يوم من أيام الصيف الحار, مضى حمدان رضوان حاملاً كرته الصغيرة وهو يصفر مردداً لحنأ سمعه في المذياع ذلك الصباح، قبل أن يتوقف عند سرور كي يشتري منه بعض الفول الطازج, فبادره بالقول:
- مساء الخير
- مساء النور يا حمدان !
- كيف عرفت اسمي ؟
هز سرور كتفيه قائلاً:
- أنعم الله علي بالسمع يا حمدان, ولكننى نادرًا ما أتكلم
ثم أردف قائلاً وابتسامة خفيفة تعلو وجهه:
- سمعت عدداً من أصدقائك ينادونك بهذا الاسم.
ابتسم حمدان في تعجب, وقبل أن يأخذ منه كيس الفول فاجأه بسؤال:
- لم لا يوجد لديك أصدقاء في الحارة ؟
ابتسم سرور بشفقة على حاله قائلاً :
- هل طلب أحد أن يتعرف علي وأنا رفضت؟.. ربما يكون السبب في ظروف عملي التي تتطلب النوم باكراً حتى أستيقظ ساعة الفجر وأبدأ يومي الشاق.. عموماً ناس الحارة هم أهلي حتى وإن كنت لا أخالطهم.. على فكرة أنا أحب القراءة جداً ولي أيضاً محاولات للكتابة. لا أدري هل يمكن اعتبار ما أكتبه شيئاً يستحق الاهتمام أم لا ولكنني أرتاح عندما أكتب بضعة سطور أو صفحات كلما وجدت وقتاً لذلك

قال حمدان وهو يتظاهر بالاهتمام :
- عال, ماذا تكتب؟
- عن جميع مجالات الحياة... ربما تكون قصصاً أو خواطر.. لكنها على أي حال مجرد محاولات
- أنا أعرف القراءة قليلاً, فما رأيك أن تطلعني على بعض الصفحات التي تكتبها

سبب آخر طرأ على ذهن حمدان فنطق به على الفور:
- عندي وقت فراغ، ويمكن أن أجد في هذه الأوراق بعض التسلية والفائدة

قال سرور كأنه قد عثر على بارقة أمل بعد عناء طويل:
- كان حلمي طول عمري أن يهتم بقصصي أي شخص حتى ولو كان صغيراً مثلك!

ابتسم حمدان وهو يحاول أن يبدو نابغاً في نبرة صوته:
- من دواعي سروري أن أقرأ ما تكتبه, وأنا متأكد أن الكلام الذي تكتبه سيكون إن شاء الله غاية في الجمال!

هم حمدان بالذهاب والابتسامة مطبوعة على شفتيه، لكن سرور استطرد كأنه تذكر شيئاً:
- انتظر .. أنت ما زلت لا تعرف اسمي، ونحن الآن صديقان
قال حمدان وكأنه يلوم نفسه على غبائه:
- معك حق!
- اسمي سرور .. سرور الدمياطي
- عاشت الأسامي يا سي سرور

ودع حمدان صديقه الجديد, بعد أن اتفق معه على أن يأخذ منه في اليوم التالي بعض كتاباته الأدبية. وعندما أحضر له سرور تلك الأوراق التي بدت كأنها مشروعات قصص وروايات وجد حمدان أنها ثقيلة الوزن حتى إنه حملها بصعوبة، مما أثار استغراب كل من رضوان أفندي وزوجته سنية. فقد لفت انتباههما هذا الكم الكبير من الأوراق التي يتأبطها حمدان, وأبداً ما كان يقرأ الصبي
استوقفه الأب قبل أن يدخل غرفته وسأله بصوته الأجش:
- من أين حصلت على كل تلك الأوراق ؟
قال حمدان ببساطة:
- هي قصص وروايات من صديق لي في الحارة لكنه يكبرني ببضعة أعوام
- طالما أنك فالح في القراءة, لماذا فشلت في مواصلة تعليمك؟
- المشكلة أنه ليس هناك من يقرأ روايات صاحبي, وهو محبط قليلاً.. قلت أشجعه!
- وما اسم صديقك هذا؟

تردد حمدان وهو يقف مشدوهاً كأنه يبحث عن أي شيء يخرجه من تلك الورطة .. إذ لم يكن يريد أن يعرف أبوه أنه تكلم مع أحد الغرباء أو مع فتى يبيع الفول, وفي الوقت نفسه لم يرد أن يكذب.. ظل صامتاً شارد الذهن للحظات حتى هزه ارتفاع صوت والده رضوان وهو يصيح في وجهه مستنكراً:
- لا تعرف اسم صديقك؟
- لا .. أقصد أنني أعرف.. اسمه سرور
- سرور ؟ ابن من سرور هذا؟
- أبوه متوفى, ولم يذكر سيرة أبيه.. تعارفنا أمس على بعضنا البعض!
- نعم .. لكن ما اسمه الكامل؟
- سرور الدمياطي

انفعل رضوان أفندي وقفز من مجلسه كمن لسعته نار، قبل أن يسأل حمدان في نبرة قاسية للتأكد:
- بائع الفول؟ هذا الولد الصعلوك؟

قال حمدان في صوت خافت بريء:
- ليس صعلوكاً .. بل هو فتى مسكين والله

اتجه رضوان أفندي بكل جسده نحو الفتى الصغير الغارق في محيط من الخوف.. ولطمه على خده بكل قوته .. ناظرًا إليه في حدة, فشهقت سنية ثم استعطفت زوجها وناشدته بصوت متهدج:
- وحياة أولياء الله الصالحين.. أستحلفك برحمة السيدة والدتك.. لا تضرب الولد الذي حيلتنا!

انقلب رضوان بكل غضبه على زوجته، صارخاً:
- تلك آخر تربيتك لهم .. دللت أبناءك حتى وصلوا إلى مرحلة الطيش, كل هذا بسبب تربيتك الغبية

خفضت سنية رأسها في مسكنة وقالت معاتبةً :
- سامحك الله يا سي رضوان..أنا تربيتي غبية؟
- لا تتدخلي مرة ثانية بيني وبين أولادي. بدءاً من اليوم سأربيهم بالطريقة الصحيحة وسأحاسب كل من يخطيء فيهم وأعاقبه بشدة

أسرعت سنية للإمساك بكلمات الزوج كأنها عثرت بين حروفها على حبل الإنقاذ من نار غضبه:
- يمكنك أن تربيهم بالطريقة التي تعجبك, لكن وحياتي عندك اهدأ ولا تضرب الولد, الله يخليك يا سي رضوان!

نظر رضوان إلى زوجته بامتعاض ثم وجه كلامه إلى حمدان وهو يضغط على مخارج الحروف في غيظ:
- سبق أن حذرتك من التكلم مع الغرباء.. صح! قلت لك كم مرة أن تسمع كل كلمة أقولها؟
- آسف يا بابا, أعدك بأن هذا لن يتكرر أبداً!

هدأت أعصاب رضوان قليلاً فتنهد، ثم قال بنبرة آمرة:
- ومن الغد اذهب لتعيد تلك الأوراق التافهة إلى صديقك الصعلوك

أجبرت حدة الأب حمدان على أن يوافق على إعادة تلك الأوراق إلى صاحبها, وهو يتجنب النظر في عينيه خجلاً, لكنه همس في خفر:
- آسف يا سرور .. أبي لا يرضى عن الصداقة التي بيني وبينك.. يظن أنك صعلوك تتظاهر بالطيبة, لكن لا يهم إن شاء الله سيكون لك قراء كثيرون غيري مهتمون بقراءة قصصك ورواياتك وستصبح يوماً ما مشهوراً.. ولتعتبرني صديقك .. لكن هذا سيكون بيننا فقط ولن يعرف بالأمر أحد

ارتسمت على وجه سرور ابتسامة وديعة وبدا قادراً على تفهم أسباب غضب الأب رضوان.. ثم ودع الفتى وهو يشعر بأنه فقد مشروع صديق وخسر أيضاً إحساساً خاطفاً بالسعادة لاهتمام الصغير بأوراقه وكتاباته

وضع أوراقه على القطعة الخشبية الصغيرة التي كانت تستقر إلى جانبه ويستخدمها في عمله.. وتشاغل بأشياء أخرى حتى يحتوي شعوراً بالحزن كاد يغزو جوانحه

لم يكن سرور يدري أن الصدفة ستقوده إلى مفاجآت تنصفه من معاناته مع الفقر وقلة ذات اليد.. فالصدفة فقط هي التي جمعته على غير موعد مع فاروق محمد, مدير تحرير الصحيفة الأدبية التي تهتم بنشر الأشعار والروايات

كانت تلك المرة الأولى التي يأتي فيها فاروق لتناول طبق من الفول الشهي من عند سرور مع صديق له في العمل
كان فاروق رجلاً ثرياً, يملك فيلا كبيرة في شارع السرايات وكان كبير السن, نبيل القلب, ذكياً.. عرف طريقه إلى الصحافة منذ تخرجه في الجامعة..وشق طريقه حتى أصبح من أعلام الصحافة الأدبية في القاهرة. صوره المنتشرة في الصحف كانت بطاقته وهويته التي عرفه بها الكثيرون.. ولذا التمعت عينا سرور عندما وجد فاروق وصديقه -بعد عناء السهر طوال الليل لحين إتمام طبع الجريدة- يقرران خوض تجربة تناول طبقين شهيين من الفول الطازج من هذا البائع الشاب.. وبعد أن أعد للرجلين طبقين خاصين من الفول بالليمون والزيت الحار والملح النقي والفلفل الحار، غالب سرور تردده فاقترب من الرجل الكبير وسأله بابتسامة مهذبة:
- يشرفني أن يأكل صحفي كبير مثلك من الفول الذي أبيعه.. لا تؤاخذني لكنني عرفتك من صورك المنشورة في الصحف
ابتسم فاروق, وقال بتواضع:
- تشرفنا..وأنت؟
- اسمي سرور .. سرور الدمياطي.. أرجو أن يكون مذاق الفول قد أعجبك
- الله يكرمك يا أخ سرور
أحب فاروق محمد مذاق الطبق الشهي، ووعد سرور بأن يزوره بين فترة وأخرى.. وفي المرة التالية، كان سرور أكثر استعداداً لأن يحدث الصحفي المعروف عن هوايته فقال له في تردد:
- أستاذ فاروق, الحقيقة أنني أكتب أحياناً قصصاً أو روايات عن موضوعات كثيرة في الحياة وكنت أتمنى وأرجو أن ينشرها لي أحد، لكن..

ابتسم فاروق وبدا من نظرته الخبيرة المجربة أنه استوعب ما يريد سرور قوله، فمد يده قائلاً:
- أعطها لي الآن لأقرأها, وسأعود بعد أسبوع إن شاء الله كي أخبرك برأيي فيها
- أشكرك.. أشكرك يا أستاذنا.. الله يخليك
- لكننى سأخبرك برأيي بمنتهى الصراحة
- طبعاً طبعاً..هذا شرف لي، وأنا أحب أن أعرف رأيك بصراحة!

أعطى سرور أوراقه لفاروق, وهو يرجو الله أن تنال تلك الكتابات إعجاب هذا الصحفي الكبير

أسبوع كامل من القلق عاشه سرور في انتظار ظهور الصحفي المرموق ومعرفة رأيه في الأوراق التي أعطاها له.. لعبت الظنون برأس الفتى وبدأ اليأس يتسرب إلى نفسه بعد أن اعتقد أن الرجل لم يجد في تلك المحاولات الأدبية شيئاً يذكر أو مشروع موهبة واعدة

ما أصعب القلق الذي يلتهم الروح

لكن سرور ظل يذكر طويلاً صباح يوم ثلاثاء كان مشغولاً فيه بالبيع لزبائنه عندما وجد فاروق قادماً باتجاهه وعلى وجهه ابتسامة عريضة وفي يده نسخة من الجريدة التي يعمل مديراً لتحريرها..ناوله الجريدة وأشار عليه بأن يطالع الصفحة السابعة منها، ففعل سرور ليجد أمامه أجمل مفاجأة في حياته. كان اسمه يزين نصاً أدبياً منشوراً

طار سرور من السعادة وشعر بامتنان شديد للرجل الذي منحه الثقة والأمل في أن يكون يوماً ما من كتاب الرواية.. نشر سرور الخبر في الحارة وسارع إلى شراء بعض النسخ من هذا العدد على سبيل التذكار ولإطلاع من يعرفهم على هذا النجاح غير المنتظر الذي حققه.. نجاح أسعد بعض أهل الحارة الطيبين، لكنه أغاظ فريقاً آخر ممن رأوا أن بائع الفول لا يستحق مثل هذه اللحظات من الفرح والأمل في غدٍ أفضل. وكان ممن اغتاظوا رضوان أفندي، في حين أخفى حمدان الصغير عن والده ابتهاجه بأن صديقه السري نجح في كسر حصار الفقر وصار الآن مشهوراً

منذ ذلك اليوم بدأ سرور مرحلة جديدة في حياته، إذ بدأت كتاباته الأدبية تجد طريقها إلى النشر حتى صار حديث الناس..وسرعان ما بدأت مرحلة تحوله من بائع فول بسيط إلى روائي محترم تسعى دور النشر إلى التعاقد معه لنشر أعماله.. لكنه لم ينس يوماً معروف فاروق محمد وكان يقول له ممازحاً:

- حضرتك صانع السعادة بالنسبة للعبد لله

وكان الرجل يرد عليه ضاحكاً في تواضع:
- ليتني كنت صاحب السعادة.. عموماً أنت اسمك سرور، وجميل أن يكون لك من اسمك نصيب

ولأن فاروق لم يكن قد رزقه الله بأبناء فإنه كان يعتبر سرور ابنه الوحيد.. ووقف إلى جانبه في رحلة إثبات وجوده الأدبي ليحقق سرور نجاحاً باهراً..ويتمكن من إلحاق أخته سماح بإحدى المدارس الراقية قبل أن تتفوق هي الأخرى وتتمكن من الالتحاق بكلية الصيدلة..حلم سماح الذي أرادت تحقيقه بعد أن استقرت في أعماقها رغبة نبيلة في أن تكون سبباً في شفاء الآخرين من آلامهم ومعاناتهم.. ربما لتجنبهم التعرض لما عانته هي من فقرٍ وعوزٍ في طفولتها

لم ينس سرور حارة الشرف.. كانت جزءاً من تكوينه وأيامه التي حفرت عميقاً في ذاكرته ووعيه.. وكان كلما زار الحارة, يلقى استقبالاً حافلاً من أهلها الذين كانوا يرحبون به ويتجمعون حوله، بل إن بعضهم كان يقول بفخر:
- "سرور بك" ابن حارة أصيل

أو يقولون على سبيل المجاملة وربما النفاق:
- كنا نتوقع له مستقبلاً رائعاً

غريب أمر الناس..عندما تصيب أحدهم الشهرة ويرزق بالمال الوفير يتحول إلى شخص خارق ونجم ساطع في نظرهم تحيط به هالة ضخمة.. لكنهم لا يهتمون كثيراً بمن يجعل رأسماله الكرامة والشرف

دنيا

Friday, December 8, 2006

مصر في حارة: 4



مهجة عبد الودود
" 4 "




عبد الودود الأسواني أرمل في منتصف الأربعينيات. صعيدي وجدود جدوده من قلب الصعيد..أسوان, اشتهر بسذاجة تمتزج بحدة في الطباع.. ثمرة زواجه الوحيدة من"عديلة" الشامية -زوجته المتوفاة- هي صبية اسمها مهجة

كم شهدت "حارة الشرف" لعب مهجة فوق أسطح المباني العتيقة وسط الصبيان و البنات وبجوار أقنان الدجاج وبيوت البط والأرانب! كم لمح أبناء الحارة رزانتها وهدوءها ورقة ملامحها المصرية الشامية.. حيث اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من أبيها عبد الودود أفندي, في حين وهبتها والدتها عديلة عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف وشعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر من الأحلام

ومهجة هي روح تلك الحارة بشقاوتها وبراءتها.. تلعب وتركض وتجلجل مثل بقية الأطفال, لم يكن هناك من يكرهها أبداً في حين أحبها الجميع. طفلة .. نعم طفلة يغلفها الذوق ومسحة من الحياء. لكن رياح الصبا هبت لتقتلع منها تلك الشقاوة ومعها طفولتها البريئة .. فقد هدها مرض مفاجيء, أخذ ينال من صحتها وعافيتها.. فإذا بها تقع من طولها فجأة.. تتعب ويسري في أنحاء جسدها إرهاق غامض مصحوب بارتفاع في درجة الحرارة, ثم بعد لحظة تنقلب حرارتها إلى برودة تلسعها وتدفعها إلى البكاء


لاحظ من حولها أنها تسمع أصوات الأشخاص لكنها لا تسمع ما يقال منهم. يتمالك والدها نفسه فيحثها على الصبر في مواجهة المرض الغامض, ويقول لرضوان أفندي في قهوة الحارة:
- إنها لا تنطق جملة على بعضها الآن. لا أعرف ماذا أفعل يا أبا حسين
فينصحه رضوان وهو يتصنع الحكمة الزائفة, قائلاً :
- إذا كانت في هذه الحالة الخطيرة, فيجب أن تذهب بها إلى قصر العيني. يجب أن تعالج ابنتك المسكينة إلا إذا كانت تتدلل عليك
يضج عرق عبد الودود الصعيدي, متمتماً:
- فتاة مفعوصة تذهب إلى قصر العيني؟ ربما هي تتدلل لأنها وحيدة, لكننى لن أسمح بأن تذهب إلى قصر العيني, وستتحسن حالتها بإذن الله. والله لقد أخذت المفعوصة هذا اللين وذلك الدلال من والدتها.. الله يرحمها و يغفر لها

ويمر أسبوع تلو الآخر, وصحة مهجة لا تتحسن بل تزداد سوءاً. لم تعد تقوى على اللعب مع فهيمة وحمدان فى تلك الأسابيع التي أصبحت بالنسبة لها مليئة بالملل والفراغ

كانت مهجة تقف في منتصف سطح من أسطح الحارة لتؤدي دور المدرسة التي تحذر تلاميذها من عدم الصمت وتتوعدهم وهي تلوح برقة بعصا صغيرة..كانت تلعب وتنشر البهجة في أي مكان تذهب إليه.. كانت, وكانت, وكانت

عرف الناس عنها تلك الرقة والعاطفة الجياشة.. فكان إذا مرض أي من أطفال الحارة, ترجو والدها وتلح عليه حتى يزور والد الطفل المريض ويطمئن عليه أو عليها. ولكن عندما مرضت هي, منع الأهالي أبناءهم وبناتهم من زيارتها, كما منعوا أنفسهم من زيارة منزل أسرتها خشية انتقال "عدوى" المرض الغامض منها إليهم

كان منظرها مثيراً للشفقة وهي مستلقية على السرير وحدها في حين اكتسى وجهها الصغير بلون أصفر .. وخانتها ساقاها الواهنتان فلم تعد قادرة على الوقوف على قدميها.. كلما حاولت سقطت, وكانت كثيرة السقوط

تبكي بغزارة وفي ضعف, لكن أحداً لم يكن يستمع إلى شكواها وأنينها.. فالأب ركب رأسه وصمم على موقفه السلبي, تاركاً ابنته وسط غابة من الألم وهو يظن أنها مرحلة دلال أو أن مرضها عابر سرعان ما ستشفى منه في غضون أيام أو حتى أسابيع قلائل, ويصمم على أنها لن تذهب إلى مستشفى قصر العيني مشدداً على أنه يجب مواجهة هذه الميوعة بشيء من الحزم

و ذات يوم عندما عاد عبد الودود من العمل, ليجدها مطروحة على ظهرها على أرض الشقة الخالية من السجاد, تئن وتصرخ بصوت ضعيف. فوجيء الأب و سرت في جسده قشعريرة الخوف على ابنته لأول مرة, فهرول إليها, وقال بلهجته الأسوانية:
- ماذا جرى يا مهجة ؟ انطقي!
دمعت عيناها, وقالت بصوت أقرب إلى الهمس:
- أشعر بأنني سأموت يا أبي, أنا خائفة ..سأموت, ساعدني الله يخليك

تتساقط حبات العرق من جبهة عبد الودود خوفا وحزناً على ابنته الوحيدة .. فيمسك بيدها ويضغط عليها قائلاً:
- سأحضر بعض نساء الحارة للمساعدة. النساء سيعرفن بالتأكيد سبب تعبك وأنا واثق أنهن سيقدمن لك شيئاً يعالج وجعك..تماسكي وشدي حيلك

يصيح عبد الودود على النساء وأزواجهن الجدعان في منتصف الحارة فيلبي نداءه كثيرون ومن بينهم الست سنية, التي تأتي حاملة حساءً من شوربة الدجاج, كما حمل البعض مشروبات ساخنة وجاء فريق آخر ببعض الأعشاب الطبيعية والوصفات الشعبية, وأخذت إحدى نساء الحارة تتحسس جبهة مهجة, وسرعان ما صرخت في عبد الودود بفزع:
- ابنتك ساخنة مثل النار. يجب أن تذهب بها إلى قصر العيني حالاً ..مهجة ستضيع منك.. الحقها
لكن الرجل يهز رأسه ما بين الرفض والتردد ويقول لها:
- لا يمكن يا أم سامح , لا تضخموا الموضوع إلى هذا الحد !
- لا تضخيم ولا حاجة.. تحسس جبهتها وستعرف أنني لا أبالغ
يداري عبد الودود وجهه الأسمر, وفجأة يقول للناس من حوله:
- شكراً يا جماعة.. ربنا يحفظكم. والله قمتم بالواجب وزيادة
يودع عبد الودود من جاءوا إليه للمساعدة, ويشكرهم بحرارة, ثم يقول لابنته بعد رحيلهم:
- شوفي.. أنا عارف إنك تمارسين الدلع على والدك.. لكن كفاك دلعاً, إنه مجرد مرض بسيط وستشفين منه إن شاء الله قريباً
تنظر إليه مهجة نظرة ملؤها العتاب, ثم تغلق عينيها من شدة التعب والألم، فتنام من دون رد
تمر جمعتان غير أن حالة مهجة تظل على ما هي عليه من الضعف. وفي ظهيرة أول يوم في الجمعة الثالثة, يعود عبد الودود من صلاة الجمعة بجلبابه الأبيض فيلقي السلام على ابنته ويتوقع منها رد السلام, لكن يجدها مطروحة على فراشها دون حركة .. جامدة كتمثالٍ بلا روح
نظرة عينيها الحزينة تغيب وسط أرضية الحجرة..وقد اكتست شفتاها الرقيقتان بلون أبيض سحابي, وامتد شعرها الكثيف كموج البحر, في حين كان العرق يحاصر جبهتها العالية. لم تكن الفتاة تبتسم كعادتها ولا حتى تتنفس..وغاب أي انفعال عن قسمات وجهها

ينظر إليها عبد الودود نظرة يمتزج فيها الإحساس بالذنب مع الشعور بالشفقة, يستلقي بجانبها, وقلبه يكاد ينفطر بسبب إحساسه بالتعاسة والألم للحالة التي وصلت إليها ابنته
ثم تلدغه الحقيقة كأنها عقرب.. لقد ماتت زهرته الصغيرة

أمسك يديها الصغيرتين الباردتين وأخذ يقبلهما هامساً لنفسه :
- قضيت على ابنتي ... قضيت على ابنتي
وما هي إلا لحظات حتى انتشر الخبر المؤلم في الحارة. بكى الأطفال بغزارة, وحزن أهالي الحارة من مختلف الأعمار على رحيل تلك الصبية الرقيقة المحبوبة التي عشقها كل من رآها لخفة ظلها وبراءتها .. وتحسرت النساء على موت مهجة ابنة الخامسة عشرة وهن يقلن في المجالس الخاصة بهن: كانت كالبدر .. كنت أتمناها عروساً لابني..كان ينتظرها مستقبل مشرق..يا لسوء حظها, و يا لسوء حظ أبيها
لم يعرف أحد فى تلك الفترة أن ما أصيبت به كانت الملاريا

عاش أبوها بعد رحيلها عن الحياة وحيداً دون زوجةٍ أو ذريةٍ تؤنس وحدته.. فكان يتجنب الجلوس مع أصدقائه القدامى في المقاهي أو العمل ..وبعد أن كان الصديق الوحيد لرضوان أفندي المنياوي.. دفع الأخير ثمن عزلة صديقه المقرب.. فأصبح هو الآخر وحيداً يجالس خياله الضخم في أحد أركان مقهى الحارة

Friday, December 1, 2006

مصر في حارة: 3





طاهر سيف الدين
" 3 "
يوم مشرق من تلك الأيام الهانئة التي يتسرب فيها إليك شعور طاغٍ بالدفء والصفاء .. يوم تسطع فيه الشمس الصافية, ولا ينقطع هديل الحمام وزقزقة العصافير... كعادة حمدان التى لا تنقطع انشغل باللعب فى فناء الحارة وسط الزهور والأشجار المورقة, فها هو حمدان يقطف بعض أوراق الأشجار لتقليد أمه عند عمل الملوخية مع فهيمة, ثم ينظر أمامه... فيرى شابًا في أوائل العشرينات.. فارع العود, وسيم الوجه, مليح القسمات, ملون العينين, أسنانه صافية بيضاء كلون اللؤلؤء, بذلته أنيقة, وحذاؤه لامع, يقترب من حمدان فيشم الفتى رائحة الصابون والورود العطرة المنعشة ... ابتسم له الصغير , فرد عليه الشاب بابتسامة رقيقة, ثم قال بصوت ودود:
- أظنك حمدان. لقد كبرت كثيرًا يا بطل
- أتعرفني ؟ وجهك عجيب وليس مألوفاً في الحارة !
- نعم أعرفك, ثم إنني أتيت هنا البارحة وأول شيء فكرت فيه هو أن آتي لكي أسلم على حسين أخيك
- حسين... حسين سافر إلى انجلترا. لا نعرف أي خبر عنه, ومرت ثلاث سنوات تقريباً على عدم عودته عن بلاد الغربة. أنا ونينة في انتظاره! و لكن كيف عرفتني أنا وحسين ؟ من أنت وما اسمك ؟
- كنت زميل حسين في الكتاب والمدرسة الثانوية , واسمي طاهر سيف الدين
- عاشت الأسامي يا طاهر بك...
يضحك طاهر ويقول برفق :
- طاهر بك ؟ أقول لك زميل أخيك وتقول لي أنت طاهر بك ؟ اسمي طاهر فقط يا عزيزي حمدان !
يبتسم حمدان ويقرر ببراءةٍ أنه سيتخذ منذ هذه اللحظة من طاهر صديقًا حميمًا كما اتخذه حسين, ثم يقول :
- والآن يا ... يا طاهر, هيا لكى تتغدى عندنا .. نينة انتهت من طبخ بازيلاء وأرز ودجاجة بحالها, ولا نحب أن يأتينا ضيف فلا نستقبله ولا نرحب به
لم يرد طاهر رفض تلك" العزومة " الشهية إلى بيت صديقه القديم, فوافق وذهبا هو وحمدان, وأخذا يتحدثان عن أحوالهما في الدنيا, كما سأله طاهر العديد من الأسئلة الفضولية عن تعليمه, ففوجيء بشدة عندما علم أن حمدان لم ينل نصيباً يذكر من التعليم ولم يكن كأخيه النجيب حسين

كما عرف حمدان بدوره أن طاهر في السنة الأخيرة من دراسته في كلية الشرطة بعد أن توسط له عمه الثري للانضمام إليه!

تسمع الست سنية طرق الباب المتواصل, فتفتح و الابتسامة الحنونة تعلو وجهها المرح, تتعجب لرؤية طاهر و لكنها تعرفه على الفور وترحب به ويتغدى عندهم ... الغريب أن رضوان أفندي بنفسه رحب به خير ترحيب وأخذ يتحدث معه بودٍ كأنه أب يتحدث مع ابنه. تسأله الست سنية عن أحوال والدته أم طاهر, فيطل الحزن من عينيه وتعرف الست سنية على الفور بأنها توفيت, فتحزن لذلك أشد الحزن, وتسأله إنّ كان يعيش الآن بمفرده, حيث إنها تعرف ان أباه قد توفي منذ طفولته, فيقول :
- أبدًا, أعيش مع زكريا القناوي, من قنا لكنه يدرس في جامعة القاهرة , فيستقر معى وقد استأجرنا شقة ما شاء الله إيجار هنا فى حارة الشرف, ويستقر معي أيضًا محمود دياب, يتيم الأب والأم مثلي وكان معي أنا وحسين فى المدرسة وكان يكبرنا ببضعة أعوام, إذا كنت تتذكرينه!
بالطبع لم تتذكره الست سنية, لكنها قالت بدماثة وابتسامة ساذجة :
- صُدف يا طاهر, إن الله جمعكم ثانيةً ...
فيبدأ الجميع بالحديث عن الصدف ... ثم يتحدث طاهر ورضوان أفندى عن الثورة وسعد زغلول والمظاهرات. ويتغير ويتنوع الحديث من موضوع إلى آخر، إلى أن تأتي فهيمة من عند الست سعدية بعد أن قضت معها معظم ساعات الصباح طويل، فينبهر طاهر لمرآها وتجذبه إليها بعذوبتها وجمالها الآسر
أما هي فقد سألت والدتها على انفراد:
- من هذا يا نينة ؟
- زميل حسين أيام المدرسة
- و ماذا يفعل هنا ؟ حسين سافر منذ ثلاث سنوات, فماذا يريد منا ؟ لا تنقصنا مشكلات ومتاعب!
- نحن نستضيفه و نرحب به يا فهيمة , ثم أن المتاعب لا تأتى إلا من ناحية أبيك.. ووالدك سي رضوان رحب به خير ترحيب
تبدي فهيمة تبرمها وضيقها المعتادين، ثم تغلق باب الغرفة لتنال قسطاً من الراحة بعد نهار كامل مع الست سعدية, ولا يشغل ذهنها شىء إلا النوم و الراحة

أما طاهر..فلم يكن يشغل باله ساعتها سوى تلك الفتاة التي دخلت عالمه من دون استئذان