Friday, October 17, 2008

مصر في حارة: 17








سارة ورضوان


" 17 "

عامٌ طويل مضى، منذ واقعة إلقاء القبض على محمود دياب


واقعة مؤلمة حفرت عميقاً في ذهن وذاكرة أحبته وأصدقائه، وما زاد من مرارة تلك الواقعة هو نهايتها التي نكأت الجراح
فقد صدر حكمٌ بإعدام محمود وإحالة أوراقه إلى المفتي، ونُفِذ الحكم بالفعل قبل أن ينتهي ذلك العام


بدا طاهر الأكثر تأثراً بما جرى.. تغيرت أشياء كثيرة في ذهنه وطريقة تفكيره، وأخذ يزور حسين أكثر من مرة أسبوعياً, وكان يتناول طعام الغداء مع عائلة المنياوي ومع حسين وعائلته الصغيرة في عددٍ من أيام الجُمع

هاجمت نوبات المرض سعدية من دون سابق إنذار..وأصبحت طريحة الفراش على فتراتٍ متباعدة، في حين كانت القطط صديقتها المقربة، إذ تنام في وداعةٍ إلى جانبها كأنها رفيقة مخلصة لتلك السيدة العجوز . لم تعد سعدية تعرف طعم المزاح، وتتجنب المرح ولحظات الغناء.. فجأة هبت رياح الحزن والملل لتقتلع أشجار المرح في حياة تلك المرأة

لكن أعجب وأغرب تغيير في مسار الأحداث و الأشخاص, هو أن حمدان لم يعد يلعب في الحارة, فقد كبر قليلاً وأصبح فتى في الثالثة عشرة, وخطت شعيرات فوق شفتيه ملامح شارب خفيف. أما هو فقد غمره إحساس بأنه على أعتاب الرجولة التي بدأت تسري في عرقه، وأخذ يحرص على أن يبدو عاقلاً ومتزناً أكثر فأكثر
الرياح التي هبت على عائلة المنياوي لم تغير شيئاً واحداً: طريقة تعاملها مع ليلى. كانت العائلة تعاملها بتحفظ مشوبٍ بالجفاء، ولم يخفف من وقع هذه المعاملة إنجابها طفلاً ثانياً من حسين، أطلقا عليه رضوان على اسم جده. وإذا كان الجد رضوان قد سُر وابتهج لأن طفل العائلة الجديد يحمل اسمه، فإن توقعات حسين بأن تتحسن معاملة عائلته لزوجته ذهبت أدراج الرياح
عاش الجميع في هدوء أقرب إلى الرضى وأشبه بالسعادة
ولكن، هل تستمر السعادة؟
بدأت رحلة توقفها في يومٍ من أيام الصيف الحارة, التي كان حسين يرتدي فيها بذلته الأنيقة للذهاب إلى العمل, فدخلت عليه زوجته غرفته, وبادرته بالقول:
- حسين يا حبيبي, أريد أن أكلمك في شىء مهم
- ألا يمكن تأجيله؟ عندي مواعيد وارتباطات عمل أريد أن ألحق بها
- كلا , أنا آسفة
نظر إليها حسين باهتمام، وسألها:
- خير.. إن شاء الله؟
- الحقيقة, هي أن أمي ليست راضية عن حياتنا ومعيشتنا في مصر!
- لكننا نملك شقة جميلة ومريحة في حي العجوزة .. أين تريدين أن نعيش؟
- في انجلترا يا حسين
باغته الرد فارتبك للحظات. أخذ حسين ينظر إليها بتعجب كأن شيئاً أصاب عقلها, ثم قال بصوت بارد يخالطه بعض الغضب:
- ليس كل ما نريد يتحقق, حلمك أن نذهب إلى انجلترا , لكننا سنستقر هنا في مصر .. ثم ما الذي لا يعجب أمك هنا؟
- لا تستطيع أن تتأقلم .. وأنا أيضاً غير قادرة على ذلك.. حاولت وفشلت. وبصراحة، لا أحب أهلك، أعني أنني.. لا أحب طريقة معاملتهم لي.. ثم إننا سنعيش سوياً حياة أفضل في انجلترا مع سارة و رضوان. صدقني يا حبيبي
وضعت يديها النحيفتين على وجنتيه البارزتين, ونظرت إليه نظرة مليئة بالتعاسة, لكنه قال لها بهدوء بعدما أبعد يديها عن وجهه:
- لا بد من الصبر يا ليلى والتأقلم مع حياتنا الجديدة.. أنا آسف, والآن يجب أن أذهب, أرجو ألا تفكري كثيراً في هذا الموضوع الثانوي
- هذا ليس أمراً تافهاً..إنه يتعلق بعائلتنا وحياتنا معاً
بدا حسين متململاً من هذا الحديث الذي لا يقود حسب رأيه إلى شىء، وطبع على جبينها قبلة باردة، ثم استأذن في الانصراف مسرعاً إلى العمل.. لكنه لم ينسَ ما قالته ليلى, وأخذ يفكر فيه وهو في حيرةٍ من أمره
وحين عاد من عمله مساء ذلك اليوم، رحبت به صغيرته سارة بابتسامةٍ بريئة, في حين بدت ليلى مشحونةٍ بقلقٍ مكتوم, لكن بخارها المكتوم كان يتصاعد شيئاً فشيئاً. وجد حسين أنه من الضروري تهدئة خاطرها. وحين جلسا معاً، بادرها بالقول:
- أعرف أنك مشغولة بموضوع استقرارنا.. لكنني يا ليلى خائف من الموضوع الذي حدثتني بشأنه في الصباح
احمرَّ وجه ليلى من الغضب، لكنها تمالكت نفسها وقالت وهي تضغط على مخارج حروفها:
- اسمع يا حسين .. لا أريد أن أعاندك، ولكن يجب أن نسافر
- و لماذا يا حبيبتي؟ نحن هنا نشعر بالارتياح و الدفء الأسري
- لا تجمعنا معاً في كلامك, أنت تشعر بهذا الارتياح، أما أنا فلا.. ولا أعتقد أن حال رضوان وسارة هنا سيكون أفضل من حالهما في بلدنا
- فلنغلق هذا الموضوع, لن نسافر إلا في أحلامك
- بل سنسافر يا حسين
- ما هذه اللغة التي تحمل تهديداً؟ لماذا تحاولين خلط الأوراق ودفعنا إلى حافة الصدام؟ قلت لكِ لن نسافر
غيَّرت ليلى من لهجتها وأخذت تخاطبه في توددٍ أقرب إلى الضعف:
- لست أتحداك. كنت أبحثُ فقط عن مصلحتنا كعائلة
إلا أن الحوار الذي دار باللغة الإنجليزية بدا كأنه بين شخصين يتمسك كل منهما برأيه ومواقفه
وفي لحظة توتر وغضب:
- لا فائدة من الكلام معك.. أنت عنيد وترفض النظر إلى مصلحة عائلتنا. سأترك المنزل، لكنني سآخذ معي الطفلين
رد قائلاً:
- لا بأس، خذيهما
وفي لحظاتٍ، حزمت ليلى حقيبة جلدية كبيرة تضم أغراضها وطفليها، ثم أخذت كلاً من رضوان و سارة متوجهة إلى شقة أمها كريستين في حي الدقي. وهناك، أخذت تشكو لأمها ما جرى. أيدتها الأم في موقفها، لكنها نصحتها بأن تحاول مرةً ثانية إقناع الزوج برأيها بشأن السفر إلى انجلترا والاستقرار هناك
في مساء اليوم التالي, ذهبت ليلى بصحبة أمها إلى شقة الزوجية في حي العجوزة
وبالصدفة، وجدتا مع حسين كلاً من سنية وفهيمة اللتين كانت تحاولان من دون جدى تهدئة الخلاف بين حسين وزوجته
وما إن دخلت ليلى مع أمها, حتى بادرت ليلى بالحديث إلى حماتها قائلةً:
- هل حكى لك حسين عما حدث بيننا؟
- نعم يا ليلى
- وما رأيك؟
رفعت سنية حاجبيها ثم قالت في حدة:
- بالطبع لست موافقة. من ترضى بأن يبتعد ابنها الأكبر عنها؟ ولماذا يفعل ذلك؟
- الحقيقة أنني لا أجد في هذا الموضوع أي مشكلة,ثم إننا من الممكن أن نزوركم بين فترةٍ وأخرى
- ومن يضمن لنا ذلك؟
فجأة, قال حسين بهدوء:
- اسمعي يا ليلى, لقد منحتك كل ما أستطيع.. اشتريت لك شقة فخمة ومريحة في حي راقٍ, و عاملتك أطيب معاملة, ولقد أنجبنا طفلين كنت أتصور أنهما سيذيبان أي خلافاتٍ بيننا, ولكن لم يعجبك كل ما فعلته من أجلك. إن أردتِ أن تسافري أينما شئت, فافعلي.. لكن يتعين عليك أن تتركي لي الطفلين
- هذا سيحدث في أحلامك. سيكون الطفلان معي أينما ذهبت
تدخلت الست سنية قائلة في غضب:
- ما هذا؟ سيبقى الطفلان معنا
أخذت ليلى حقيبتها وهي تقول في لهجةٍ ساخرة:
- سلام أيها الطبيب اللامع, أنا حتى لا أطيق رؤيتك
غادرت ليلى مع أمها, كما أخذت معها كرامة حسين التي تبعثرت عندما قالت له إنها لا تحتمل رؤيته. صمت حسين وهو يشعر بالإحباط والاكتئاب,في حين أخذت أمه تزيد من حالته النفسية سوءاً وهي تلومه قائلةً:
- هذه هي نتيجة من يتزوج امرأة لا تنتمي إلى بلده ولا تفهم أخلاقه ولا تعرف مجتمعه. كم كنت أتمنى أن تتزوج امرأة من بلدك ولا تهدم حياتك بالزواج من هكذا امرأة
في صباح اليوم التالي، استيقظ حسين ليجد نفسه وحيداً في شقته، لكنه شعر - ربما للمرة الأولى- بإحساسٍ عجيب.. الهواء الثابت ملأ الشقة الفخمة
صباح غريب وغير معتاد، ازدادت غرابته عندما لمح مظروفاً صغيراً ينام على مائدة الطعام في الصالة. فتحه ببطء والنعاس لم يفارقه بعد, وبدأ في قراءته بعينين نصف مغلقتين:
"حسين
دخلت الشقة صباح اليوم أثناء استغراقك في النوم وكتبت لك هذه الرسالة، سافرت اليوم مع سارة ورضوان وماما, لكني لم أسافر إلى انجلترا بعد أن نصحتني أمي بأن لا تعرف أين سافرت كي لا تلحق بي ..قلت لك إني سآخذ الطفلين.. لم يكن أمامي خيارٌ آخر. أرجو أن تجد امرأة أفضل مني, كما أني سأجد بالتأكيد رجلاً يحبني ويهتم بي أكثر منك
ليلى

تسارعت دقات قلب حسين واغرورقت عيناه بالدموع. قرَّب الرسالة إلى عينيه وأخذ يقرأ ما بها مرة تلو الأخرى. استند على المقعد كأنه يتهاوى تحت مطرقة الحدث، وتداخلت الصور في عقله.. قبل أن ينخرط في بكاءٍ مرير. لم يكن حسين يصدق تلك المفاجأة التي فطرت قلبه..أن تختفي زوجته ومعها طفلاه. بدأ يلوم نفسه ويجلد ذاته لأنه ارتبط بامرأةٍ يمكنها عند أول خلافٍ أن تحرمه من رؤية طفليه..ربما إلى الأبد
***
ارتدى حسين ملابسه على عجل, و أسرع إلى منزل حماته كريستين في الدقي لكنه لم يجد أحداً، فذهب كسير الخاطر إلى بيت أبيه رضوان أفندي، وقد احمرت عيناه بسبب بكائه المستمر حزناً على طفليه وهرب زوجته بهما
طرق باب العائلة، ففتحت له فهيمة وعلى وجهها ابتسامة ودودة سرعان ما اختفت لتحل محلها الدهشة لحالته التي يرثى لها, فسألته:
- حسين، ما بك؟
نظر إليها وسط دموعه, ثم ضمها بقوة و هو يبكي جرحاً عميقاً لا يندمل..كان شعوره بالحزن و الفقد غامراً .. وضعت فهيمة يديها الرقيقتين على ظهره, وسألته :
- ما بك ؟ لم تبكي يا حسين؟
- ليلى .. ليلى
- ما بها؟
- أخذت سارة ورضوان وسافرت إلى مكانٍ لا عرفه .. وقد لا أرى طفليَّ مرة ثانية, أشعر بالتعاسة, لا أصدق ما يجري لي
هرعت سنية إلى ابنها وضمته إلى صدرها, وأخذت تربت على كتفه لتهدىء من روعه. أما الأب رضوان فانهال عليه لوماً وتوبيخاً، واتهمه بالفشل في احتواء المشكلة مع زوجته، قبل أن يقول له بقسوةٍ وصرامة:
- لن أرى حفيديّ بسبب غبائك!
نظرت إليه سنية في تعاسةٍ, قائلة:
- لا داعي لهذا الكلام الآن, هما طفلاه أيضاً, و هو بالتأكيد يشعر بالذنب والحزن أكثر من أي أحدٍ منا.. ثم إن كل شيء قسمة ونصيب

بكى حسين, ولم يرد على أبيه, في حين انشغلت الأم بتهدئته، وهي تحاول أن تؤكد له أن هذه الغُمة مؤقتة وأنه سيلتقي طفليه وتعود إليه زوجته عما قريب


وعندما حل الليل، نصحته أمه سنية بأن يأوي إلى فراشه باكراً، وأن يطرح همومه جانباً، مؤكدةً له أن الفرج من عند الله سيأتي في أقرب وقت. أطاعها حسين وهو يشعر بانكسارٍ، إذ لم يكن يتخيل أنه يمكن أن يصبح في يومٍ من الأيام بمثل هذا القدر من التعاسة

Friday, May 23, 2008

مصر في حارة: 16



القاتل

" 16 "


صوت الطرقات المتلاحقة على باب المنزل، أفزع سنية التي اندفعت نحو الباب بخطى لا تتفق مع جسدها الذي أرهقته السنون وزادته البدانة ثقلاً. وما إن أدارت المفتاح وفتحت جزءاً من الباب الخشبي العتيق حتى اندفع حمدان الصغير إلى الداخل، كأنه فأر يفلت من مطاردة. حاولت سنية أن تمسح آثار النعاس على وجهها لتسأل ابنها عما به، لكنه عاجلها ما بين أنفاسه المتقطعة والدهشة البادية على ملامح وجهه ليقول لها:

- مفاجأة.. مفاجأة كبيرة يا أمي.. ألقوا القبض على القاتل..قاتل الست هنومة.. لقد اعترف بالجريمة
- ومن هو هذا المجرم الذي قتل هذه المسكينة؟
- لن تتخيلي ذلك. إنه محمود دياب , لا أعرف كيف. لا أعرف. محمود؟ ما علاقته بأبلة هنومة وكيف يقتل؟ .. كنت أظن أنه شخص مسالم وفي حاله
- محمود دياب؟ صديق حسين! لا إله إلا الله ... كيف؟ لا أصدق !
- لا أعلم يا أمي, لكن طاهر وحسين يقفان أسفل العمارة، أمام سيارة المباحث، والضباط على وشك وضع محمود في السيارة. لقد رأيت القيود في يديه والشرطي يمسكه بقوة


كان للخبر وقع الصدمة على الجميع، ولم تكن سنية من جهتها تتصور أن يكون محمود دياب قاتلاً، فصورته في ذهنها تتسم بنبل الأخلاق، فضلا عن كونه صديق ابنها
لم يكن أمامها سوى أن تتأكد بنفسها من حقيقة ما يجري


وما بين الترقب والفضول الذي تخالطه الرهبة وتوقع الأسوأ، سارعت إلى ارتداء العباءة بسرعة فائقة، دون أن يتوقف عقلها عن التفكير المشوش، في حين دَاخلَ قلبها شعورٌ بالمفاجأة الثقيلة على النفس. ما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسها وسط بحر من الناس الواقفين على رصيف الحارة الملاصق لعمارتها ممن تجمعوا لمعرفة ما يجري


كان حسين واقفاً وسط هؤلاء وهو يمد يديه إلى الأمام كأنه يحاول التدخل دون أن يستطيع، وفي عينيه نظرة حزن وشفقة. أما طاهر فانخرط في نوبة بكاء مرير, فيما حاول محمود أن يخفي بكلتا يديه ملامح وجهه عن الجميع في المسافة القصيرة التي ظهر فيها على الملأ إلى أن اختفى داخل سيارة المباحث. وساعدته الأسلاك الممزقة في السيارة على إخفاء معالم وجهه

انحنى طاهر على ركبتيه و هو يردد دون وعي:
- لا أصدق, لا أصدق
بعد قليل، وجد طاهر نفسه في بيت صديقه حسين فيما أحاط بهما كل من الأم سنية والابنة فهيمة والابن حمدان

سألت الأم بحزن وعيناها مغرورقتان بالدموع:
- كيف يا حسين؟
نظر إليها حسين بحزن, قائلاً بصوت خافت:
- ألم تقل لكِ هنومة أن لديها ابناً؟
- صحيح, واسمه عادل
- عادل هو ابن محمود. لقد أنجبت منه عادل، بعد أن تعرف إليها محمود وهو في بداية دراسته الجامعية. علاقة عابرة لا أحد يعرف كيف بدأت وتطورت لتصبح علاقة زواج بين اثنين لا يجمع بينهما شيء.. لكن المحتوم وقع، لتدب بينهما الخلافات ، فقررت هنومة حرمانه من رؤية ابنه وأخفته عنه في الإسكندرية بحجة أنها راقصة وأن عملها لن يساعدها في أن ترعاه وتمنحه مشاعر الأمومة التي يحتاجها. ولهذا كان محمود على الدوام مهموماً وتغلب على وجهه التعاسة. كان يردد دائماً لطاهر أنه سيبقى حزيناً إلى أن يموت و ..
قاطعه طاهر, ليقول بصوت بدا خارجاً من بئر عميقة:
- لكن لم يفهمه أحد منا.. لم نفهمه
حاول أن يمسح دموعه، في حين أكمل حسين كلامه قائلاً:
- منذ أسبوع, زار محمود هنومة ورجاها أن تخبره بمكان ابنه, لكنها رأت الفرصة مواتية للنيل منه والانتقاص من كرامته، وسرعان ما احتد النقاش بينهما، فأخذت تجرحُ كرامته وتهدده وتصبُ عليه جام لعناتها.. ويبدو أن الشيطان لعب برأسه ودفعه في لحظة غضب إلى قتلها

بكى طاهر وهو يستمع إلى ما قاله حسين عن محمود صديقه المقرب إليه. لم تر سنية رجلاً يبكي بحرقةٍ مثلما كان طاهر يفعل
وعندما عاد رضوان أفندي من العمل حاول تهدئة طاهر الذي بدا في حالة انهيار يصعب معها احتواء مشاعره.. حتى فهيمة أخذت تواسيه تحثه بما تسعفها به الظروف


بدا طاهر كأن العالم من حوله قد تهاوى بضربة مطرقة، فارتمى في أحضان العزلة وسط جوٍ من اليأس والشعور بالقهر، نتيجة ما جرى لصديقه الأثير إلى نفسه


توارى طاهر وبقي لأشهر ٍ طويلة حبيس منزله، ولم يكن يقطع عليه عزلته سوى صديقه حسين الذي أخذ يزوره للاطمئنان عليه وتطييب خاطره. بذل حسين قصارى جهده كي يؤنس وحدة طاهر ويساعده على نسيان هذه الأزمة العصيبة.. غير أن المهمة بدت شبه مستحيلة

Thursday, January 24, 2008

مصر في حارة: 15





جريمة قتل


" 15 "


لكل نهار عنوان

وعنوان ذلك النهار كان تلك النسمة المنعشة التي هبت ولامست الخدود والجباه، لتمنح أهالي الحارة والمارة في تلك المنطقة لحظاتٍ نادرة من الراحة والطمأنينة
بدا كل شخص على حاله. الست سعدية تشتري لوازم قططها والحلوى والطعام. ناجي مقار يغني على الأرصفة بصوته الجميل الذي يملؤه الشجن. نجوى كريم تشتري هدايا للفقراء والمحتاجين من الأسر المتعففة, حسين يزور مع زوجته عائلة رضوان أفندي وزوجته سنية
لكن شخصية واحدة اختفت عن الأنظار كأنها فص ملح وذاب: الراقصة هنومة نصار
فقد انقطعت أخبارها ولم يعد أحد يراها وهي تخرج في أول المساء ثم تعود في وقتٍ متأخر أو مع ساعات الصباح الأولى
تبخرت هنومة، الأمر الذي أثار فضول وتساؤلات البعض
وفي يوم الجمعة, فتحت فهيمة باب المنزل لحمدان الذي قال بحماس ٍ طفولي مشوب بالخوف :
- الشرطة موجودة تحت العمارة, ويقول الجميع إن الست هنومة قُتلت
خرجت سنية من المطبخ وهي تشمر عن ساقيها وقالت وهي تمسك في يديها بإحدى حبات الطماطم التي كانت تجهزها لطبق السلطة ضمن طعام الغداء :
- قتلوها؟
بعد لحظة صمت، أردفت سنية قائلة: لا حول ولا قوة إلا بالله. هل عرفوا من القاتل؟
هز حمدان رأسه بالنفي, ثم قال بأسف:
- يقول شيخ المسجد عمر إنه رآها لحظة الجريمة, عند آذان الفجر, وهو من أبلغ عن الحادث, ولكنهم لا يعرفون من القاتل حتى الآن, لأن الشيخ رآه من ظهره عبر الزجاج الملون للنافذة ملونة, فكان من الصعب عليه أن يحدد ملامحه ويكتشف هويته
أطل الأسى من عيني سنية, وزفرت زفرة حارة قبل أن تقول بصوتٍ خفيض:
- ربنا يغفر لها و ينتقم ممن قتلها
ران الصمت على منزل عائلة رضوان..وخيمت أجواء من الحزن على أفرادها.. ولكن عندما عاد رضوان أفندي من العمل تسابق الجميع لإبلاغه بما جرى في غيابه، لتدور الحوارات والتخمينات بينه وبين باقي أفراد العائلة حول حكاية جريمة قتل هنومة نصار

وفي الحارة تتغذى النميمة على الفراغ القاتل، في محاولةٍ يائسة لكسر أجواء الرتابة والملل
وهكذا أصبحت جريمة قتل هنومة نصار حديث الجميع في تلك الحارة الوادعة.. حتى حسين انشغل في لقائه منتصف اليوم مع صديقيه طاهر ومحمود بموضوع الراقصة التي انتهت حياتها نهاية مأساوية يلفها الغموض
كانت بورصة التخمينات على أشدها بشأن حقيقة ما جرى لتلك المرأة، حين قال طاهر :

- أتوقع أن تكون قد انتحرت, والله أعلم
ضحك محمود, وقال بسخريته المعتادة :
- انتحرت؟ لا يا ذكي , لأنهم وجدوها مذبوحة بطعنة سكين.. عليك ألا تنسى أن شيخ المسجد رأى شخصاً ما يقتلها! هذا استنتاج يثبت تواضع ذكائك وضمورك العقلي أيها الخائب
لوح طاهر بيده, وبدا متضايقاً من سخرية صديقه بقدر ما شعر بالأسف لسقوط الفرضية التي وضعها وظن أنها تقدم حلاً للجريمة الغامضة
لكنه سرعان ما حاول الدفاع عن نفسه بالقول:
ربما كان الشيخ قد تخيل ما رآه.. إنه شيخ كبير في السن، والأكيد أنه فقد حدة الإبصار وقوة التركيز منذ زمن بعيد
جاءت سنية وفي يدها أكواب الشاي التي تهتز على الصينية حتى يكاد الشاي الذي تتصاعد منه الأبخرة يلامس الحافة، كأنه امرأةٌ تتدلل في غنج
شاركتهم سنية الحوار فقالت:
- المهم أن يغفر لها ربنا .. أستغفر الله
استمر الحوار طويلاً, تشعب في دروب مهنة الراقصة وعلاقاتها وعودتها إلى المنزل متأخراً، ودخل في متاهةٍ من التفسيرات والتأويلات، وتكررت كلمة "ربما" طوال النقاش
فجأة, سمع الجميع طرقات قوية ومتواصلة على الباب. جفلت الست سنية, وسرت في جسدها رعدة قبل أن تخاطب زوجها بصوت مهتز وأنفاس متقطعة :
- لابد أنهم المباحث .. افتح أنت الباب!
ابتسم رضوان وأشار لها بيده مطمئناً، ثم اتجه إلى الباب. وما إن فتحه حتى عقدت الدهشة لسانه، إذ وجد عند الباب أربعةً من رجال الشرطة يتقدمهم ضابط برتبة مقدم، لم يضيع وقته طويلاً، فأخذ يطرح أسئلة ويحقق بجفاء مع رضوان وزوجته التي كانت ترد بصعوبةٍ بالغة وأنفاسٍ متقطعة على تساؤلات ضابط التحقيق، وهي تحاول تمالك نفسها حتى لا تطفر الدموع من عينيها

وسرعان ما سأل الضابط عن مدى علم عائلة رضوان بأن هنومة كان لديها ابن ٌ يعيش في الإسكندرية، فأجابت سنية بأنها علمت بالأمر من هنومة وأن اسمه عادل. سجل مقدم الشرطة بعض الملاحظات والمعلومات التي استقاها من عائلة رضوان، وعدَّل قبعته الرسمية، قبل أن يستأذن في الانصراف ويأمر من معه بأن يلحقوا به. وفور خروجه أسندت سنية يدها اليمنى على أقرب مقعد في الصالون ذي اللون المذهب وأخذت تردد: الحمد لله.. الحمد لله
أما ابنتها فهيمة، فقد وقفت عند باب غرفتها وهي تضع يدها على صدرها، كأن عبئاً ثقيلاً انزاح عن صدرها

في ظهيرة اليوم التالي, كانت سعدية تتبادل أطراف الحديث مع سنية عبر الشرفة الصغيرة. دار الحديث حول هنومة، فلا شيء غيرها يشغل أذهان أهل الحارة. قالت سعدية:
- لا أعرف شيئاً عن الست هنومة, حتى إنني لم أكن أعرف أن هناك راقصة أصلاً في الحارة
ضحكت سنية ضحكةً قصيرة وهي تحتسي قهوتها، وتقول لنفسها كم هي كاذبة هذه الجارة. ثم قالت بهدوء:
- الحقيقة, زرت منزلها من قبل, وتكلمت معها وعرفت أن لديها ابناً من زواجها الأخير وأنه يقيم مع أمها في الإسكندرية. أثاث شقتها يدل على أن حالتها المادية ميسورة وبدت لي مرتاحة البال, لكنها لم تذكر أن لديها أعداء
- عجائب يا دنيا عجائب
- لم أكن أتوقع أن تحدث جريمة في الحارة .. جريمة!
- بعض الأشقياء في ليل الحارة يحملون المطاوي والسكاكين, وجرائم السرقة والسطو تقع بين الحين والآخر. لم تتعجبين ؟
- لا أعلم .. لكنها جريمة قتل يا سعدية!
- قلت لك, عجائب يا دنيا
ضحكت سنية على كلام سعدية، وواصلا الحوار الذي لا نهاية له

مضت شهور على هذا الحوار الذي يتساءل عن الضحية..والقاتل
وفي أحد أيام الخريف المعتدلة زار حسين صديقه طاهر في المنزل, ففتح له الأخير الباب وقال بحزن:
- مساء الخير يا حسين, تفضل
- مساء النور, ما بك؟
صمت طاهر قليلاً, ثم قال:
- سيسافر مصطفى اليوم إلى قنا, ولن يرجع القاهرة مرة ثانية
قال حسين كأنه يعاتب صديقه:
- مازلتُ موجوداً ..أنا ومحمود -
- محمود ؟ أنا ومصطفى لا نعرف مكان محمود منذ ثلاثة أسابيع, وأخشى أن يكون قد حدث له شيء, أو حتى وقع له مكروه..لا قدر الله
خفق قلب حسين, وتسرب إليه شعور بالقلق. اقترح على صديقه أن يمضيا سحابة النهار في البحث عن محمود، ربما يمكنهما الاطمئنان عليه ومعرفة سر اختفائه المفاجيء، فوافق. غير أن بحثهما كان بلا طائل, مع أنهما فتشا عنه في كل مكان وسأل عنه لدى أصدقاء مشتركين، وتفقدا عدداً من المستشفيات وبعض أقسام الشرطة

أخذ الإرهاق من طاهر كل مأخذ, وبدأ يشكو لحسين, ويعبر له عن ضيقه, لأنهما لم يعرفا سبب غياب صديقهما

وبعد خمسة أيام, كان الجميع على موعد مع معرفة الحقيقة المُرة .. معرفة قاتل هنومة نصار
صعق كثيرون حين علموا بهوية القاتل.. ربما لأنه كان آخر من يتوقعون أن يقف وراء تلك الجريمة المروعة