ليلى موسى
" 11 "
" 11 "
توارت خيوط ضوء الشمس الواهية خجلاً خلف السحب، كأن ذيول الفجر لا تزال تفرض نفسها على القرص المستدير الذي يتوسط السماء
انهمك حمدان في اللهو في أرجاء الحارة غير عابيء بلسعات خفيفة من البرد تطارد المارة وتدفع القطط إلى الانزواء أو الاحتماء بالأشجار العارية. أما فهيمة فقد لزمت مطبخ المنزل، تشارك في طهي الطعام وتردد بعض الأغنيات الذائعة وسط الأبخرة المتصاعدة من القدور التي تغلي. وانشغلت سنية بمهمة تنظيف المنزل بمساعدة أم سعاد, أملاً في أن يزداد جمال ورونق منزلها المتواضع، خاصةً بعد أن رأت بأم عينيها الحال الميسورة للجارة هنومة بما تملكه من أثاث جديد وكراسٍ خشبية وحوائط براقة تزينها الستائر الملونة
انهمك حمدان في اللهو في أرجاء الحارة غير عابيء بلسعات خفيفة من البرد تطارد المارة وتدفع القطط إلى الانزواء أو الاحتماء بالأشجار العارية. أما فهيمة فقد لزمت مطبخ المنزل، تشارك في طهي الطعام وتردد بعض الأغنيات الذائعة وسط الأبخرة المتصاعدة من القدور التي تغلي. وانشغلت سنية بمهمة تنظيف المنزل بمساعدة أم سعاد, أملاً في أن يزداد جمال ورونق منزلها المتواضع، خاصةً بعد أن رأت بأم عينيها الحال الميسورة للجارة هنومة بما تملكه من أثاث جديد وكراسٍ خشبية وحوائط براقة تزينها الستائر الملونة
أما حسين فقد حافظ على عادته الغموض بالبقاء لساعاتٍ طويلة خارج المنزل، من دون أن يعلم أحد ما الذي كان يفعله ومع من يلتقي
يوم بدا لكثيرين مجرد يومٍ عادي آخر, لكن القدر كان يخبيء لعائلة رضوان أفندي مفاجأةً من العيار الثقيل
كان رضوان جالساً في مكانه المفضل بالمقهى وهو يرشف من فنجان القهوة حين وجد ابنه حسين يحث الخطى إليه قبل أن يقف في مواجهته وينحني قليلاً ليقول له بصوت أقرب إلى الهمس:
- أبي, أريدك في موضوع غاية في الأهمية
- طيب، اجلس وهات ما عندك يا دكتور
- الحقيقة.. أنني.. الأفضل أن أناقش الموضوع معك في البيت
وافق رضوان من دون أن يولي الأمر أهمية تذكر، فلم يكن هناك ما يدعوه إلى القلق..لكنه حين دخل منزله أحس بجوٍ من الترقب يحيط بغرفة الاستقبال..كان حسين في انتظاره جالساً وهو يفرك يديه إلى أن رأى والده فهب واقفاً ونادى على باقي أفراد العائلة كي يتجمعوا ويستمعوا إلى ما يريد قوله
تحلقت الأسرة حول حسين الذي طالت فترة صمته، حتى استعجلته الأم سنية لرغبتها في إكمال ما بدأته من أعمال المنزل، لكن حسين قال وهو يتعثر في كلماته:
- الحقيقة, هناك أمر معين أخرّني وأنا في انجلترا. شيء لا أدري كيف أقوله لكم, لكن يجب أن تعلموا به الآن على أي حال، فأنا لم أعد قادراً على إخفائه لمدة أطول
يحلق طائر الذهول فوق رءوس الجميع إلى أن تتساءل سنية في لهفةٍ قائلةً:
- قل لنا يا حبيبي، ماذا حدث لك في انجلترا؟
احمرت وجنتا حسين وهو يقول بصوت خافت:
- الحكاية أنني..
تسارعت ضربات قلب حسين وكاد الفضول والقلق يوقف خفقات قلوب باقي أفراد عائلته، في حين اتجهت العيون إلى حسين الذي قال وهو يغالب تردده:
- أنا ..أنا تزوجت من فتاة اسمها ليلى موسى, نصفها انجليزي ونصفها الآخر مصري و.. وأنا أب لطفلةٍ منها. أعلم أنها مفاجأة بالنسبة لكم جميعاً، لكنني لا أستطيع أن أخفي الأمر عنكم بعد الآن
كان حسين في أثناء كلامه المتردد يقف بين كل لحظة وأخرى.. وعندما فرغ من إلقاء قنبلته أخذت أمه بعينين ذاهلتين تردد من دون ملل:
- تزوجت "خواجاية يا حسين..تزوجت "خواجاية"
أما رضوان أفندي فهوى بكف يده على خد حسين.. وانهال على ابنه بشتائم قاسية زلزلت كيان الابن البكر للعائلة.. وسرعان ما سالت الدموع من العيون, وسط حالة من الصدمة والارتباك تلف المكان
تهاوت سنية بجسدها الثقيل على المقعد كأنها تريد أن تستنجد بأي شيء حتى لا تقع على الأرض وتنهار.. اغرورقت عيناها بالدموع .. وبدأت تندب حظها, وهي تلوم ابنها:
- هل هذه نهاية ثقتنا بك يا حسين؟ لماذا ؟
اشتعل الغضب في صدر رضوان مرة ثانية، فارتفع صوته وهو يصرخ في وجه زوجته طالباً منها أن تسكت قليلاً، إلى أن فوجيء بها الجميع تنخرط في بكاء مرير وهي تقول:
- الله يسامحك يا ابن بطني
وبينما الصاعقة تترك أثرها على الوجوه والقلوب, ذهبت فهيمة ناحية حسين ووضعت يدها اليمنى على كتفه, لتهزه وهي تقول باكية:
- لماذا يا حسين؟
نظر إليها حسين نظرة تمتزج فيها مشاعر الألم بالأسى.. من دون أن يمنحها إجابة تشفي غليلها
اقترب منه الأب قائلاً في غضب:
- هل هذه نتيجة موافقتي على سفرك إلى بلاد الغربة؟ تتزوج من دون علم أهلك؟ كيف حدث هذا؟
أطرق حسين برأسه وهو يقول:
- تزوجت على سنة الله ورسوله..والله!
- لكنك تزوجت من دون أن نعلم بالأمر ولم تستشرنا في شيء.. لا أصدق أنك فعلت هذه الفعلة
ووسط بكائها الحار الذي لم تفلح محاولات الابنة فهيمة في تهدئته، أخذت سنية تقول:
- حرام عليك, معقول أبقى جدة من دون أن أعرف!..وعندما أعلم بالأمر لا أتذوق حلاوة الإحساس باحتضان حفيدتي؟ معقولة ابني الذي كنت أثق فيه أكثر من نفسي وأتفاخر به، يفعل كل هذا من وراء ظهورنا جميعاً؟ ما ذنبها ابنتك المسكينة كي تحرمها من جدتها وجدها؟
- أنا نادم أشد الندم يا أمي!
- وما نفع الندم الآن!
نظر كل من حمدان وفهيمة إلى أمهما وهما يشفقان عليها بسبب بكائها ودموعها الغزيرة، في حين أخذ رضوان يتمالك أعصابه ليسأل ابنه قائلاً:
- والآن, ما العمل؟ لا أعرف يا ربي ما العمل!
سالت دمعتان على وجه حسين ثم انحنى على يدي أمه وهو يقبلهما قائلاً:
- أرجوك يا نينة, شوفي زوجة ابنك وحفيدتك.. دعينا نطوي صفحة الماضي ونفتح صفحة جديدة.. لقد استأجرت لهما شقة صغيرة في باب اللوق إلى أن أفاتحكم جميعاً في الأمر.. أرجوك.. أرجوكم جميعاً..اعتبروا أنكم كنتم تعلمون الأمر من البداية, ثم إن هذا زواج يا جماعة.. لم أرتكب إثماً لا سمح الله.. كل ما فعلته أنني أحببت فتاة وتزوجتها حتى رزقني الله بابنة جميلة منها
- أرجوك يا نينة, شوفي زوجة ابنك وحفيدتك.. دعينا نطوي صفحة الماضي ونفتح صفحة جديدة.. لقد استأجرت لهما شقة صغيرة في باب اللوق إلى أن أفاتحكم جميعاً في الأمر.. أرجوك.. أرجوكم جميعاً..اعتبروا أنكم كنتم تعلمون الأمر من البداية, ثم إن هذا زواج يا جماعة.. لم أرتكب إثماً لا سمح الله.. كل ما فعلته أنني أحببت فتاة وتزوجتها حتى رزقني الله بابنة جميلة منها
بدأت الأعصاب تبرد تدريجياً، وبدا كل من رضوان وسنية أكثر تقبلاً أو على الأقل خضوعاً للواقع والمفاجأة التي حملها إليهما ابنهما البكر.. هدوء شجع حسين على مواصلة حديثه مخاطباً والده هذه المرة قائلاً:
- هل ترضى يا أبي ألا ترى حفيدتك الأولى التي تبلغ من العمر عاماً ونصف العام؟ إن زوجتي هي ابنة جديدة لك. أشعر بجرح عميق في قلبى, وأنتم جميعاً علاجي الوحيد من هذا الألم الذي ظل حبيساً في صدري طوال الفترة الماضية. قولوا إنكم موافقون على رؤيتهما.. أرجوكم
تبادل الجميع النظرات وانطلقت من الأعين رسائل تتراوح بين الاستعطاف والتردد والحزن، إلى أن قطع رضوان الصمت ببطء وتردد قائلاً:
- موافق, لكن بشرط
تهلل وجه حسين قائلاً:
- كلامك أوامر يا أبي
- أريد أن أرى حفيدتي فقط. لست راضياً لا عن زوجتك ولا عنك يا حسين
وافق حسين من دون تردد على طلب أبيه, بعد أن وجد في هذه الموافقة المشروطة فرصة لإنهاء ولو جزء من معاناته مع سر زواجه السري، على أمل أن يذوب جليد الجفاء تدريجياً وينجح يوماً في لم شمل عائلتيه الكبيرة والصغيرة
ولأول مرة منذ بدء هذه المصارحة العاصفة التي هزت المنزل الهاديء، ارتفع صوت حمدان فجأة ليسأل في براءة:
- حسين.. ما اسم ابنتك؟
لاحت على وجه أخيه ابتسامة خفيفة ومسح دموعه بطرف قميصه وهو يقول:
- اسمها سارة.. سارة حسين