Sunday, March 11, 2007

مصر في حارة: 11



ليلى موسى
" 11 "




توارت خيوط ضوء الشمس الواهية خجلاً خلف السحب، كأن ذيول الفجر لا تزال تفرض نفسها على القرص المستدير الذي يتوسط السماء

انهمك حمدان في اللهو في أرجاء الحارة غير عابيء بلسعات خفيفة من البرد تطارد المارة وتدفع القطط إلى الانزواء أو الاحتماء بالأشجار العارية. أما فهيمة فقد لزمت مطبخ المنزل، تشارك في طهي الطعام وتردد بعض الأغنيات الذائعة وسط الأبخرة المتصاعدة من القدور التي تغلي. وانشغلت سنية بمهمة تنظيف المنزل بمساعدة أم سعاد, أملاً في أن يزداد جمال ورونق منزلها المتواضع، خاصةً بعد أن رأت بأم عينيها الحال الميسورة للجارة هنومة بما تملكه من أثاث جديد وكراسٍ خشبية وحوائط براقة تزينها الستائر الملونة

أما حسين فقد حافظ على عادته الغموض بالبقاء لساعاتٍ طويلة خارج المنزل، من دون أن يعلم أحد ما الذي كان يفعله ومع من يلتقي

يوم بدا لكثيرين مجرد يومٍ عادي آخر, لكن القدر كان يخبيء لعائلة رضوان أفندي مفاجأةً من العيار الثقيل
كان رضوان جالساً في مكانه المفضل بالمقهى وهو يرشف من فنجان القهوة حين وجد ابنه حسين يحث الخطى إليه قبل أن يقف في مواجهته وينحني قليلاً ليقول له بصوت أقرب إلى الهمس:

- أبي, أريدك في موضوع غاية في الأهمية
- طيب، اجلس وهات ما عندك يا دكتور
- الحقيقة.. أنني.. الأفضل أن أناقش الموضوع معك في البيت

وافق رضوان من دون أن يولي الأمر أهمية تذكر، فلم يكن هناك ما يدعوه إلى القلق..لكنه حين دخل منزله أحس بجوٍ من الترقب يحيط بغرفة الاستقبال..كان حسين في انتظاره جالساً وهو يفرك يديه إلى أن رأى والده فهب واقفاً ونادى على باقي أفراد العائلة كي يتجمعوا ويستمعوا إلى ما يريد قوله


تحلقت الأسرة حول حسين الذي طالت فترة صمته، حتى استعجلته الأم سنية لرغبتها في إكمال ما بدأته من أعمال المنزل، لكن حسين قال وهو يتعثر في كلماته:

- الحقيقة, هناك أمر معين أخرّني وأنا في انجلترا. شيء لا أدري كيف أقوله لكم, لكن يجب أن تعلموا به الآن على أي حال، فأنا لم أعد قادراً على إخفائه لمدة أطول
يحلق طائر الذهول فوق رءوس الجميع إلى أن تتساءل سنية في لهفةٍ قائلةً:

- قل لنا يا حبيبي، ماذا حدث لك في انجلترا؟

احمرت وجنتا حسين وهو يقول بصوت خافت:

- الحكاية أنني..

تسارعت ضربات قلب حسين وكاد الفضول والقلق يوقف خفقات قلوب باقي أفراد عائلته، في حين اتجهت العيون إلى حسين الذي قال وهو يغالب تردده:

- أنا ..أنا تزوجت من فتاة اسمها ليلى موسى, نصفها انجليزي ونصفها الآخر مصري و.. وأنا أب لطفلةٍ منها. أعلم أنها مفاجأة بالنسبة لكم جميعاً، لكنني لا أستطيع أن أخفي الأمر عنكم بعد الآن
كان حسين في أثناء كلامه المتردد يقف بين كل لحظة وأخرى.. وعندما فرغ من إلقاء قنبلته أخذت أمه بعينين ذاهلتين تردد من دون ملل:

- تزوجت "خواجاية يا حسين..تزوجت "خواجاية"

أما رضوان أفندي فهوى بكف يده على خد حسين.. وانهال على ابنه بشتائم قاسية زلزلت كيان الابن البكر للعائلة.. وسرعان ما سالت الدموع من العيون, وسط حالة من الصدمة والارتباك تلف المكان
تهاوت سنية بجسدها الثقيل على المقعد كأنها تريد أن تستنجد بأي شيء حتى لا تقع على الأرض وتنهار.. اغرورقت عيناها بالدموع .. وبدأت تندب حظها, وهي تلوم ابنها:

- هل هذه نهاية ثقتنا بك يا حسين؟ لماذا ؟

اشتعل الغضب في صدر رضوان مرة ثانية، فارتفع صوته وهو يصرخ في وجه زوجته طالباً منها أن تسكت قليلاً، إلى أن فوجيء بها الجميع تنخرط في بكاء مرير وهي تقول:

- الله يسامحك يا ابن بطني

وبينما الصاعقة تترك أثرها على الوجوه والقلوب, ذهبت فهيمة ناحية حسين ووضعت يدها اليمنى على كتفه, لتهزه وهي تقول باكية:

- لماذا يا حسين؟
نظر إليها حسين نظرة تمتزج فيها مشاعر الألم بالأسى.. من دون أن يمنحها إجابة تشفي غليلها

اقترب منه الأب قائلاً في غضب:

- هل هذه نتيجة موافقتي على سفرك إلى بلاد الغربة؟ تتزوج من دون علم أهلك؟ كيف حدث هذا؟
أطرق حسين برأسه وهو يقول:

- تزوجت على سنة الله ورسوله..والله!
- لكنك تزوجت من دون أن نعلم بالأمر ولم تستشرنا في شيء.. لا أصدق أنك فعلت هذه الفعلة
ووسط بكائها الحار الذي لم تفلح محاولات الابنة فهيمة في تهدئته، أخذت سنية تقول:

- حرام عليك, معقول أبقى جدة من دون أن أعرف!..وعندما أعلم بالأمر لا أتذوق حلاوة الإحساس باحتضان حفيدتي؟ معقولة ابني الذي كنت أثق فيه أكثر من نفسي وأتفاخر به، يفعل كل هذا من وراء ظهورنا جميعاً؟ ما ذنبها ابنتك المسكينة كي تحرمها من جدتها وجدها؟

- أنا نادم أشد الندم يا أمي!
- وما نفع الندم الآن!

نظر كل من حمدان وفهيمة إلى أمهما وهما يشفقان عليها بسبب بكائها ودموعها الغزيرة، في حين أخذ رضوان يتمالك أعصابه ليسأل ابنه قائلاً:

- والآن, ما العمل؟ لا أعرف يا ربي ما العمل!
سالت دمعتان على وجه حسين ثم انحنى على يدي أمه وهو يقبلهما قائلاً:
- أرجوك يا نينة, شوفي زوجة ابنك وحفيدتك.. دعينا نطوي صفحة الماضي ونفتح صفحة جديدة.. لقد استأجرت لهما شقة صغيرة في باب اللوق إلى أن أفاتحكم جميعاً في الأمر.. أرجوك.. أرجوكم جميعاً..اعتبروا أنكم كنتم تعلمون الأمر من البداية, ثم إن هذا زواج يا جماعة.. لم أرتكب إثماً لا سمح الله.. كل ما فعلته أنني أحببت فتاة وتزوجتها حتى رزقني الله بابنة جميلة منها


بدأت الأعصاب تبرد تدريجياً، وبدا كل من رضوان وسنية أكثر تقبلاً أو على الأقل خضوعاً للواقع والمفاجأة التي حملها إليهما ابنهما البكر.. هدوء شجع حسين على مواصلة حديثه مخاطباً والده هذه المرة قائلاً:

- هل ترضى يا أبي ألا ترى حفيدتك الأولى التي تبلغ من العمر عاماً ونصف العام؟ إن زوجتي هي ابنة جديدة لك. أشعر بجرح عميق في قلبى, وأنتم جميعاً علاجي الوحيد من هذا الألم الذي ظل حبيساً في صدري طوال الفترة الماضية. قولوا إنكم موافقون على رؤيتهما.. أرجوكم

تبادل الجميع النظرات وانطلقت من الأعين رسائل تتراوح بين الاستعطاف والتردد والحزن، إلى أن قطع رضوان الصمت ببطء وتردد قائلاً:

- موافق, لكن بشرط
تهلل وجه حسين قائلاً:

- كلامك أوامر يا أبي
- أريد أن أرى حفيدتي فقط. لست راضياً لا عن زوجتك ولا عنك يا حسين
وافق حسين من دون تردد على طلب أبيه, بعد أن وجد في هذه الموافقة المشروطة فرصة لإنهاء ولو جزء من معاناته مع سر زواجه السري، على أمل أن يذوب جليد الجفاء تدريجياً وينجح يوماً في لم شمل عائلتيه الكبيرة والصغيرة
ولأول مرة منذ بدء هذه المصارحة العاصفة التي هزت المنزل الهاديء، ارتفع صوت حمدان فجأة ليسأل في براءة:

- حسين.. ما اسم ابنتك؟
لاحت على وجه أخيه ابتسامة خفيفة ومسح دموعه بطرف قميصه وهو يقول:

- اسمها سارة.. سارة حسين

مصر في حارة: 10


محمود دياب
" 10 "
جاءت أيام الشتاء الهامدة, رش السكون مسحوقه السري على شوارع الحارة.. الحديث الوحيد بين سكانها الصمت، كأنهم سئموا الثرثرة طوال باقي فصول السنة، واستعدوا لحالة من البيات الشتوي التي تصل إلى حد السبات
راود فهيمة رضوان شعور بأن أيام غياب الأخ حسين قد عادت بعدما كانت العائلة تتوقع انتهاءها.. كان الشاب كثير التنقل من مكان إلى آخر كأنه يبحث عن شيء ما غامض يبحث عنه. تشاجر الأب معه كثيراً، حتى إنه قال له ذات يوم بصوته الجهوري:
- لم نعد نراك كثيراً يا حسين، ماذا جرى.. أين تذهب؟
فلا يخرج حسين عن هدوئه، ويجيب قائلاً بنبرة أرادها محايدةً: "ذهبت إلى العمل ونسيت نفسي" أو "أحببت أن أتنزه فسرقني الوقت"
ويصدقه رضوان أفندي بعدما تستر بالحدة حتى يخفي السذاجة, وقد صدقته الأسرة بأكملها.. إلا فهيمة, حيث تتبعت بذكائها الفطري تصرفات وردود فعل أخيها لتحصل في كل مرة على النتيجة نفسها: "يوجد سرٌ ما يخفيه أخي". تلف الفتاة وتدور على أخيها لكن من دون جدوى، إذ إن نباهة حسين وهدوء أعصابه جعلاه يتجاوز الاختبارات والحيل التي لجأت فهيمة إليها لاستدراجه وربما دفعه إلى الكشف عن مكنون صدره
تحاول الفتاة ألا تشغل ذهنها، لكنها سرعان ما تعود وتلاحظ كثرة غيابه. غير أن الأحجية بقيت غامضةً تبحث عن قطعة أخيرة

وفي صباح يوم جمعة كان حسين يحتسي كوباً من الشاي ويقلب صفحات الجريدة بيده الأخرى، حينما تذكرت الأم فجأة حكاية زيارة صديقه القديم طاهر له خلال فترة سفره. انتبه حسين وترك من بين يديه الجريدة متوقفاً عن قراءتها ليسأل أمه:
- هل قال لك أين يسكن يا نينة؟ أود أن أزوره
فتسرع سنية كأنها تتباهى بأن ذاكرتها لم تحنها هذه المرة.. فتقول:
- يسكن بجانب بقالة البحيري التي تقع قبالة قهوة عم داود
- عظيم، سأزوره اليوم إن أمكن ذلك. كم أود أن أراه هو ومحمود.. من يدري ربما نجتمع في شقته، مثل أيام المرحلة الابتدائية
وانتهى الحوار من دون هدف، فأكملت سنية احتساء قهوتها في حين واصل حسين مطالعة الصحيفة
وفي منتصف النهار، حيث ضوء الشمس ينشر حضوره الطاغي على سماء المدينة، ذهب حسين لزيارة صديقيه، ليفتح له باب البيت شاب أسمر, ربعة، تجمع نظرة عينيه بين السذاجة والبراءة.. يتطلع إليه حسين لأول مرة ثم يسأل قائلاً:
- مساء الخير.. هل طاهر ومحمود موجودان؟
فيسأل الشاب بصوته الممتليء:
- نعم.. من أقول لهما؟
- قل حسين .. حسين المنياوي
- عفواً..هل قلت حسين المنياوي؟
فيجيب حسين وابتسامته الواثقة تتسع:
- سيتعرفان علي بمجرد إبلاغهما بقدومي إلى المنزل
ينظر الشاب إلى حسين بعينين متسائلتين, ثم ينادي على صديقيه, فيأتي طاهر, وبعد لحظة يقبل محمود بعينين نصف مغمضتين كأنه كان مستغرقاً في النوم، أما عينا طاهر فتلتمعان وتتسع ابتسامته وتظهر غمازتا وجنتيه اللطيفتين، مرحباً:
- حسين المنياوي صديق عمري؟
يهز حسين رأسه موافقاً, فيضمه طاهر بين ذراعيه, ويربت على كتفه في ودٍ بالغ. يبادره حسين بالسؤال:
- كيف أحوالك يا صاحبي؟
- أنا بخير يا حسين, تفضل يا صديقي
حتى تلك اللحظة, لم يكن محمود دياب يتذكر جيداً زميل دراسته حسين, مع أنه لمس مدى عمق الصداقة التي تجمع بينه وبين طاهر ..غير أن حسين كسر حاجز الجليد بينهما سريعاً, وحاول إنعاش ذاكرته وسرد طرفٍ من حكايات الصبا, لتضيء ذاكرة محمود تدريجياً ويرتسم طيف ابتسامةٍ خفيفةٍ على ملامح وجهه. محمود هو محمود, احتفظ بالشخصية القديمة نفسها التي تظهر من الريبة والشك ما يثير لدى الآخرين شعوراً بالتحفظ وربما النفور من التعامل مع صاحبها. انطوائيته لا تخفى على أحد، لكنه لا يمانع في التعامل مع الآخرين ما داموا ضيوفاً لا رغبة لديهم في الإقامة طويلاً بين جنبات عقله أو ذاكرته. كان شخصية صامتة معظم الوقت، فلا يبدأ حديثاً ولا يطلق ضحكة ولا يفجر نكتةً تشيع أجواء من البهجة في جلسات الأصدقاء
مرت فترة من الأحاديث المتواصلة ومن ثم سألهما حسين عن ذاك الشاب الذي فتح باب الشقة, فاتضح أنه زكريا القناوي, صديقهما رقيق الحال الذي يتقاسم معهما بصعوبة بالغة وعناء شديد نفقات العيش في هذا المسكن المشترك
كم كان ذاك اليوم حافلاً بالأحاديث والحكايات, حتى إن حسين أصر على دعوة طاهر ومحمود وزكريا لزيارته في منزله. أشرق وجه طاهر الذي بدا أكثر الثلاثة سعادةً بهذه الدعوة الكريمة... فهو لم ينس يوماً تلك الملامح المتدفقة بالبراءة والجمال لفهيمة المنياوي. ومع أن الظروف لم تسمح له من قبل سوى بتبادل التحية العابرة فإنه كان يشعر بشيء غامض يهز مشاعره كلما وقعت عيناه عليها
وفي نهاية اليوم الطويل, ودع حسين أصدقاءه الثلاثة, وعاد متأخراً إلى المنزل ليحكي بسرور لكلٍ من أمه وشقيقته عن لقائه بعد طول غياب مع أصدقائه القدامى, كأنما طفل صغير يحكي عن مغامرة شائقة حدثت له للتو
أما فهيمة فلم تكن تلقي بالاً لهذه الحكايات، سوى لمجاملة شقيقها الأكبر.. لم تكن تشعر بأي شيء عندما يتردد أمامها اسم طاهر، الذي كان يذوب عشقاً لمجرد ترديد اسمها أمامه

Saturday, March 10, 2007

مصر في حارة: 9



هنومة نصار
" 9 "



مقبولة الوجه..شعرها البني تختلط به خصلات مصبوغة باللون الأشقر.. ملفوفة القوام مع ميل واضح إلى الامتلاء لم تكن الملاءة السوداء قادرة على إخفاء انحناءاته الأنثوية..ابتسامتها الواسعة تكاد تلغي باقي تفاصيل المساحة بين أذنيها..صوتها العالي طاغيةٌ يسود المكان، وضحكتها المجلجلة تستمتع بالصخب، في حين تطلق نظراتها الجريئة سهامها التي لا تخطيء الهدف. ضاق جسدها المكتنز بثوبها الأحمر الذي تزينه رسومات كبيرة للورد والفراشات الملونة

أطلت برأسها من حنطور كبير, ثم تحركت ببطء خارجة منه لتلمس أرض الحارة.. أخذ كل من فهيمة وحمدان يتابعان في ذهول تلك الوافدة الجديدة على الحارة. نظرات التقطتها السيدة التي تجاوزت سن الثلاثين


اقتربت من فهيمة حتى غطت ظلالها وجه الفتاة، ثم وضعت يدها تحت ذقنها، قائلةً بأسلوب متوددٍ:


- ما شاء الله، الله أكبر. كم أنت جميلة, ما اسمك يا شاطرة؟

لم تبتسم فهيمة التي تضايقت من الروائح العطرية النفاذة التي حاصرتها فجأة، بل أجابت بصوتٍ يفتقد حرارة الترحاب:
- اسمي فهيمة, ومن أنتِ؟
- أنا ساكنة جديدة في الحارة..
اسمي هنومة

وبينما كان الحديث دائراً بين هنومة وفهيمة, لاحظ حمدان أن خطى تلك السيدة جهة سيرها تتجه إلى المبنى القديم الذي يعيش فيه مع عائلته, فأشار بسبابته إلى المبنى وقال متسائلاً:

- أنت قادمة إلى هذه العمارة يا أبلة؟

أجابت هنومة بابتسامتها العريضة حتى بانت الغمازتان اللتان تزيدان من ملاحة وجهها:
- نعم يا حبيبي.. سأسكن في الدور الأول

هتف الصبى في حماس:

- أتعرفين؟ أنا والعائلة نعيش من زمان في تلك العمارة
- عظيم، ستكون بيننا إذاً علاقة محبة ومودة

ساعدها كل من حمدان وفهيمة في حمل حقائبها الثقيلة وأغراضها الكثيرة, ثم ذهبا إلى بيتهما وأخبرا أمهما عن تلك الجارة الجديدة. وبطيبتها المعتادة تساءلت الأم في فضولٍ قائلة:
- جارة جديدة؟ سأزورها غداً إن شاء الله ربما تكون في حاجة للمساعدة في ترتيب بيتها. أما اليوم فسأتركها لترتاح قليلاً

ومع إطلالة الصباح تقف سنية على باب شقة الساكنة الجديدة وتطرق عليه لتفتح لها هنومة مرتديةً قميص نوم لونه أصفر باهت, في حين تحيط رقبتها المكتنزة بسلاسل ذهبية ثمينة ويتدلى من أذنيها قرطان ذهبيان دائريان كأنهما حلقة نار يقفز منها لاعبُ سيرك.. لكنها لم تكن تضع مساحيق الزينة التي كانت تتزين بها عندما قابلت فهيمة وحمدان

بادرتها سنية باسمةً:

- مساء الخير. أنت الست هنومة جارتنا الجديدة؟
- مساء النور..نعم..أنا هنومة
- أنا سنية أم فهيمة, الصبية التي تحدثت معها البارحة
- آه.. تفضلي بالدخول يا حبيبتي. البيت بيتك
تسمح هنومة لسنية بالدخول وتستأذنها للحظات, فتبدأ الزائرة رحلة الاستطلاع الفضولي والنظر في أرجاء الشقة وأثاثها الجديد الذي يدل على الحالة الميسورة التي كانت عليها هنومة

الصالة الكبيرة تتوسطها مائدة طعام ذات كراسٍِ خشبية بينة اللون ومساند من القطيفة. وفي الصالون الذي تغطي شرفاته ستائر حريرية بيضاء تحتل أريكة وثيرة موقعاً رئيسياً، وإلى أمامها مائدة صغيرة ينام عليها إناء للزهور ومنفضة سجائر أنيقة. وعلى الجدران تطل صور عدة تشم منها رائحة الزمن. الجرامفون القديم كان مستنداً على قاعدة خشبية ذات لونٍ بني داكن في أحد أركان الصالة كأنه شيخ وقور غارق في التأمل..جرامفون؟ كانت سنية تحلم دائماً باقتناء مثل هذا الجهاز على سبيل الوجاهة لكن ثمنه كان يفوق قدرات عائلتها
وسط اندهاش سنية من فخامة الشقة وحسرة عينيها اللتين كانتا وسيلتها لالتقاط صور فوتوغرافية تحفظها في ذاكرتها عن منزل الجارة, عادت هنومة إليها بابتسامتها العريضة وصوتها المرتفع مرحبةً بالزائرة

بدت الجارة الجديدة وهي تسير بدلال في شقتها كأنها قطعة جيلي تهتز في طبق تكاد تقفز منه إلى الخارج...مشهد قد يسيل له لعاب الرجال


هبطت هنومة بأرطال لحم جسدها البض على الكرسي الخاص بها وهي تقول لزائرتها:
- فهيمة ابنتك جميلة للغاية, وحمدان مثل الشربات

ردت سنية وقد أشرق وجهها:

- عندي ابن أيضاً درس الطب, ما شاء الله شاب مثل الورد, اسمه حسين. الذرية الصالحة فضل من عند الله ونعمة
- آه طبعًا. أنا عندي ابن اسمه عادل, في الثالثة من عمره, هو ابني الوحيد من طليقي الأخير محمود

ابتسمت الست سنية, ثم قالت بفضولٍ, باحثةً بعينيها الحائرتين عن عادل:
- وأين هو ابنك؟ لم أره بعد
- عادل ليس هنا, بل إنه يعيش مع والدتي في الأنفوشي بالإسكندرية, وأزوره كل جمعتين
- لماذا ؟ الأطفال نعمة من عند الله
- طبعاً طبعاً.. لكن ظروف عملي صعبة، وتأخري خارج المنزل يجعلني غير قادرة على رعايته..فهو ما زال في سن صغيرة
- عملك؟..ماذا تعملين يا أم عادل؟

بلهجةٍ فاترة جاءت إجابة هنومة:

- راقصة

ارتبكت سنية من وقع المفاجأة كأنما وجدت نفسها فجأة في مواجهة قطار يسرع باتجاهها, فقالت والكلمات تتعثر على شفتيها:

- ماذا؟ راقصة؟..أعوذ بالله..ربنا يغفر لك
رفعت هنومة حاجبيها المزججين كخط رفيع قبل أن ترد بحسمٍ ولهجة مستنكرة:
- لماذا؟ هل الرقص سيء إلى هذا الحد؟

هبت سنية من مجلسها واستأذنت في الانصراف لتفر من منزل هنومة هاربةً بأقصى سرعة كأنها تبتعد عن وباء الطاعون, في حين بقيت هنومة جالسةً ببرود شديد على كرسيها المرتفع, لا يشغل بالها شيء ..ربما هي حالة من عدم الاكتراث برأي الآخرين ونظرتهم إلى مهنتها بعد أن اعتادت على نفورهم ممن تعملن راقصات. كانت تعلم منذ البداية أنها لن تحظى بالعديد من الجارات في الحارة بسبب عملها كراقصة. قالت لنفسها: "نساء تافهات ورجال أكثر تفاهة.. يتهربون مني لكنهم حين يريدون إحياء أفراحهم وإدخال السعادة والسرور على قلوبهم لا يجدون غيري لإسعادهم وإحياء لياليهم الساهرة.. مسكينة الست سنية"

وعلى درجات السلم المؤدية إلى شقتها، كانت سنية تحوقل وتستغفر قائلة: "راقصة! أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. لم يكن ينقص الحارة إلا هذا"..في حين كان صوت هنومة يتناهى إلى سمعها وهي تدندن بأغنية عابثة من تلك التي اعتادت أن ترقص على إيقاعها في الأفراح والليالي الملاح

وما بين درجات السلم المؤدية إلى الطابقين اللذين يفصلان بين منزلي المرأتين، كان هناك عالم واسع شاءت الظروف أن يجمع بينها في الحارة ذات الدروب الضيقة