Thursday, November 29, 2007

مصر في حارة: 14



ليلى موسى


" 14 "




ذاع الخبر في أنحاء الحارة
عرفه البشر والحجر.. فور أن علمت به نجوى كريم. حاصر الجيران والمعارف أفراد عائلة رضوان المنياوي، وخاصة الابن حسين، وبدأت سلسلة لا تنتهي من كلمات المجاملة والتهنئة بالزواج وقدوم المولودة الجديدة، مع بعض العتاب لتأخير إعلان الخبر

تنفست أم حسين الصعداء بعد أن أصبح الخبر معلناً وشعرت بأن جبلاً من القلق قد أزيح عن صدرها.. فالأسرار لها دائماً ثمنٌ غال اسمه التكتم

ألح حسين على أفراد عائلته كي يلتقوا زوجته ليلى,الأمر الذي أسعد حمدان وأثار تبرم أخته فهيمة، وبدت سنية راغبة في ذلك بالرغم من ممانعتها حتى لا يغضب زوجها رضوان

وبعد استرضاء طويل ومحاولات متكررة، استسلم الأب بعد أن وجه إلى ابنه حسين كلمات قاسية لأنه جاء إلى العائلة بزوجةٍ لا يعرفون عنها شيئاً وتخالفهم في العادات والتقاليد

وفي منتصف النهار, كان قد حان موعد اللقاء المرتقب بين عائلة رضوان المنياوي وليلى زوجة حسين.. أول ما استرعى انتباه سنية هو تلك الجرأة -التي تصل في رأيها إلى الوقاحة- في تلك المرأة. قرأت في عينيها ولونهما الأخضر مكر الثعالب، ومطت فهيمة شفتيها في ضيق عندما نظرت إلى قوام ليلى الذي يتثنى في لؤم، وطولها الفارع وبشرتها العاجية التي تنضح بخليطٍ من البرود والقسوة

استقبلتها الأسرة بنوعٍ من الفتور المهذب بالرغم من الابتسامات المفتعلة وكلمات الترحيب الجوفاء، ونبرات الصوت التي حاول الجميع أن تبدو رقيقة. وكانت ليلى من الذكاء بحيث تشعر بهذا كله، فقررت أن تجاريهم وأن تبدي أمامهم مودة زائفة, وأن تظهر في صورة الزوجة المحبة والأم التي تفيض حناناً على ابنتها سارة

عاملت فهيمة ليلى بجفاءٍ كعادتها, واختارت ليلى تجاهل الأمر وإبداء المودة لأخت زوجها

كانت المشاهد التمثيلية المتتابعة في تلك اللحظات كافية لصنع مسلسلٍ تليفزيوني يستحق بعض الجوائز في الأداء

تكررت الزيارات بعد ذلك، ولاحظت العائلة حرص ليلى على التأنق وارتداء ثيابٍ ثمينة مختلفة في كل مرة. ولم تنس سنية أن تتمالك نفسها في أكثر من مناسبة لتوجه إلى زوجة الابن ملاحظاتٍ على انفراد حاولت أن تغلفها بالود، وتنصحها فيها بارتداء ثيابٍ طويلة تغطي بها مواطن جمالها، في حين كانت ليلى ترد بابتسامةٍ وهزةٍ من رأسها، تخفي بها ضيقها من هذه العائلة التي تحاسبها على كل شيء يخصها..حتى ملابسها



كانت المسافة بين ليلى وتلك العائلة شبيهة بالصدع بين جبلين.. فلا الجسور تنفع لردم الهوة، ولا المجاملات تكفي لرسم ملامح علاقة طبيعية بين عالمين مختلفين كل الاختلاف

لكن المفاجآت استمرت

فقد دعت ليلى والدتها كريستين لزيارتها في مصر. وجاءت الأم الإنجليزية، وبطبيعة الحال حدث التعارف بينها وبين عائلة زوج ابنتها. كما زارت عائلة رضوان في الحارة بهيرة شقيقة ليلى التي استقرت في مصر منذ صغرها مع أبيها المصري الذي توفي منذ عامين. كانت بهيرة طبيبة تتسم بالذكاء الفطري وتملك روحاً مصرية دافئة وخفة ظلٍ لا تخطئها العين

وجاء أيضاً نديم شقيق ليلى، الذي زار مصر خصيصاً لمقابلة عائلة حسين. وبدا مع مرور الوقت أن عائلة رضوان المنياوي لا تستلطف من عائلة ليلى سوى بهيرة، التي نجحت في كسر جدار التحفظ وتمكنت من الفوز بقلوب الجميع ببساطتها الآسرة وروحها المرحة، وضحكتها التي تشبه رنين الذهب

Sunday, September 9, 2007

مصر في حارة: 13



نجوى كريم


" 13 "


كانت سنية راقدة تحت دِثارها وجسدها يرتجف قليلاً بسبب البرد الذي أخذ يتسرب تدريجياً مع قدوم فصل الشتاء.. كانت عيناها معلقتين في فضاء الغرفة باتجاه السقف، حالمتين كعادتهما، في حين كان قلبها يحلق في دنيا بعيدة خالية من الأسى والتعب الذي تواجهه كل يوم، حتى سمعت طرقات على الباب، فنهضت بخطوات متثاقلة وهي تضع عليها عباءتها.

وما كادت تفتح الباب حتى ارتسمت ابتسامة على وجهها وخفق قلبها ..فنجوى كريم لا تزور منزلها إلا قليلاً.

كانت نجوى أكثر نساء الحارة تمتعاً بيسر الحال، وكانت غالباً ما تورد وجهها ووجنتيها البارزتين بالأصباغ والمساحيق وتلون شفتيها بأحمر الشفاه اللامع وتزين عينيها بالكحل. وكم كانت نساء الحارة ينتبهن إلى عشقها لارتداء الحلي الذي يطوق يديها السمينتين والسلسلة الذهبية ذات المصحف الكبير التي كانت تحيط برقبتها، وتعطي مؤشراً لا تخطئه العين على حالتها الميسورة.

وبالرغم من ثرائها فقد كانت عاشقة للحياة في حارة الشرف، مثلما عرف عنها كثيرون حرصها على مد يد العون للفقراء والمعوزين، واهتمامها بأن تكفل عدداً من اليتامى. بل إن البعض يحكي عن مساعداتها المادية لسرور الدمياطي قبل أن تتحسن أحواله وينال من رزق الله الواسع.

لكن هذا لم يكن ليجعل الناس ينسون عنها صفاتها المزعجة، فقد كانت أكثر النساء فضولاً ورغبة في استطلاع أخبار الناس من حولها حتى ولو كان ذلك يصيبهم بالضيق باعتباره من خصوصياتهم. وفي المقابل، كانت من عشاق جلسات النميمة لتبادل الأخبار والتفاصيل مع نساء الحارة حول كل ما يحدث خلف الأبواب المغلقة في منازل حارة الشرف.

ولم يكن ليفوتها مشهد حسين وهو يحمل بين يديه طفلته وينزل بها من عربة الحنطور قبل أن يصعد بها إلى منزله. قرضت نجوى أظفارها وضاقت عيناها وهي تفكر وتضرب أخماساً في أسداس، متسائلة حول هذا المشهد ومعنى وجود طفلة بين يدي حسين الذي لا تعرف عنه الحارة أنه تزوج أصلاً.

اشتعلت نار الفضول في صدرها، وهي من النيران التي لا تنطفيء بسهولة.

قررت نجوى أن تزور الست سنية وتسألها بنفسها.. وقد كان!

- كيف حالك يا أم حسين؟
- بخير و الحمد لله .. نورتِ البيت يا ست نجوى.

وبعدما استقبلت سنية صديقتها بحفاوة، جلستا لاحتساء فنجانين من القهوة المضبوطة، قالت نجوى دون مقدمات:

- رأيت ابننا حسين يحمل طفلة صغيرة ويصعد بها إلى هنا. صبية من تلك يا أم حسين؟
خفق قلب سنية بشدة وبدا عليها الارتباك، فها هي مطالبةٌ بأن تبوح لواحدة من أهل الحارة بتفاصيل عن زيجة حسين في الخارج وإنجابه طفلة، لكنها عادت لتقول لنفسها إن ابنها لم يرتكب في النهاية إثماً لا سمح الله. هو فقط قفز فوق تقاليد وأصول الزواج كما تعرفها عائلته وربما الحارة.

- البنت هي سارة، ابنة حسين. الولد تزوج امرأة أثناء دراسته في انجلترا .. بعلمنا طبعاً، و..
- ما شاء الله, ربنا يحفظها!
أرادت سنية أن تغير الموضوع وأن تصرف انتباه نجوى، فقالت لها:
- إن شاء الله.. شكراً على السؤال, وأنت كيف حال بناتك وأبنائك؟
- كل شيء بخير. تعرفين الحياة وهمومها وحكاياتها التي لا تتوقف، لكن جميعهم بخير.

وانتهى الحوار بسرعة على عكس ما توقعت سنية, التي ودعت ضيفتها الفضولية وهي تتنفس الصعداء.

كانت سنية تعلم أن نجوى ستتكفل في جلسات النميمة مع نساء الحارة بإذاعة ونشر الخبر عن زواج حسين، الأمر الذي كان ثقيلاًَ على قلبها، لأنها كانت تشعر بأن أسئلة وفضول نساء الحارة قد تسبب لها بعضاً من الحرج، خاصة في ظل تساؤلاتهن المزعجة عن الزوجة الجديدة وسر عدم عدم حضورها أو زيارتها منزل أهل زوجها حتى الآن، بالإضافة إلى تفاصيل الزواج نفسه وسبب ارتباط حسين من امرأة أجنبية بعيداً عن الوطن، وعدم ارتباطه بفتاة من الأقارب أو الحارة مثلاً.



وفي الحارات، يأكل الناس من خبز الأخبار والأسرار على مائدة الفضول.

ولدى عودة زوجها أبلغته سنية بأنها قد أخبرت نجوى عن موضوع زواج حسين, فلم يغضب بل قال لها:

- هذه السيدة فضولها لا نهاية له، وإن كان نبلها وكرمها يغفران لها هذه الصفة التي تزعج الناس.

ثم ابتسم لسنية وقال بلهجةٍ ساخرة:
- على أي حال، لا بأس من أن تتولى إذاعة نجوى كريم نشر الخبر.. ففي النهاية لم يكن هناك مفر من أن يعرف الناس أن حسين تزوج وأنك أيتها العجوز أصبحت جدة.


ولما رأت سنية أنه في حال من المزاج الرائق، بادلته المزاح قائلةً:

- عجوز؟ من فينا العجوز يا رجل..عندما تكبر ابنة حسين وتقول لك يا جدي ستعرف جيداً من فينا الذي كبر كثيراً في العمر.

Sunday, August 19, 2007

مصر في حارة: 12



سارة حسين
" 12 "

النهار الصامت في أوله..يشبه ليلةً لا تعرف أجهزة الأرصاد الجوية كيف تفسر مفاجآتها.

وفي ذلك النهار، كانت الدموع لغة الصمت ولعنة الانتظار.

كانت الأم سنية تبكي بحرارة، ولم يكن أحد يعرف هل كانت دموعها حزناً على المفاجأة الصاعقة التي تسبب فيها ابنها البكر حسين لزواجه من فتاة أجنبية خلال سنوات اغترابه، أم أنها كانت دموع الفرح واللهفة لرؤية الحفيدة سارة لأول مرة.

كانت سنية تفرك يديها في قلق وتوتر، كأنما اليدان تنتظران على أحر من الجمر احتضان الصغيرة سارة..خفقات قلب سنية كانت تتسارع كلما سمعت دقات الساعة الكبيرة في صالة المنزل. كانت تحث عقارب الساعة على أن تتعانق، حتى يمكنها أن تحتضن هي تلك الحفيدة.

وحتى تغالب دموعها وتشغل نفسها عن توترها وارتباكها،أخذت سنية تصرف ذهنها بكل الطرق عن فكرة الانتظار، فتنهمك في إعداد مظاهر الاستقبال وتنظيف أرضية المنزل وتلميع قطع الأثاث الخشبية التي تقادمت وذهب بريق لونها الأصلي بفعل الزمن. كانت تفعل كل هذا وهي تحاول أن ترسم على وجهها بين الحين والآخر طيف ابتسامة، سرعان ما تختفي بسبب غول القلق.

بعد ساعات طويلة بطيئة، فرغت سنية من تجهيز المنزل لاستقبال الحفيدة المنتظرة، ثم جلست مع حمدان في حجرة الاستقبال الصغيرة، في حين رفضت فهيمة الانتظار معهما وفضلت الاستلقاء على فراشها والغرق في بحر تأملاتها.

وقبل أن يودع قرص الشمس جوف السماء، لمح الأب رضوان أثناء جلوسه على مقعده الأثير في المقهى عربة حنطور تتهادى من بعيد, سرعان ما اقتربت ليظهر فيها حسين الذي أمر سائقها بالوقوف عند باب منزل العائلة، ونزل برفق وهو يحتضن سارة بين ذراعيه. كان رضوان يتابع المشهد، فآثر التريث قليلاً قبل أن يلحق بابنه وحفيدته دون أن يرافقهما إلى الشقة.

وما كادت سنية تسمع طرقات على الباب حتى أسرعت لتفتحه، لتجد أمامها حسين وهو يضم حفيدتها إلى صدره. لم تهتم سنية كثيراً للحديث مع ابنها بقدر ما كانت متلهفةً على احتضان الصغيرة. أخذتها من بين ذراعي حسين بعينين دامعتين، وأخذت تتأملها وتتفحص ملامحها وهي نائمةٌ في لفافة بيضاء كأنها طيفٌ من عالم الخيال.


وبالرغم من التأثر والجو المشحون الذي أحاط بأركان المنزل, كان رضوان ينظر إلى حفيدته بطرف عينيه، كأنها يختلس النظرات إليها، ويقاوم فكرة احتضانها، تأنيباً لحسين على زواجه دون علم الأسرة.


وبينما الأجواء تجمع بين الفرحة العارمة والتأثر الشديد، اقترب حسين من ابنة أخيه مبتسماً وعانق كفها الصغيرة فتمسكت بيديه وجمعت أصابعها الصغيرة وكل ملامحها تفيض بالبراءة والرقة، ثم أخذت تتفوه بكلمات لا معنى لها أو تصدر عنها أصوات طفولية، فانطبعت الابتسامة على وجه سنية، في حين نظرت فهيمة إلى الصغيرة في فضول، في الوقت الذي استغرقت فيه سنية في تلاوة آيات من القرآن وهي تمر بيدها على رأس حفيدتها.

كسر حسين حاجز الصمت، فقال وهو يبتسم:
- ما شاء الله, وجهها جميل. ألا تشبه فهيمة ؟
ظل سؤاله المجامل حائراً دون إجابة, فمط شفتيه وقال في براءةٍ كأنما يجيب على نفسه:
- أنا أقول إنها تشبه فهيمة.

Sunday, March 11, 2007

مصر في حارة: 11



ليلى موسى
" 11 "




توارت خيوط ضوء الشمس الواهية خجلاً خلف السحب، كأن ذيول الفجر لا تزال تفرض نفسها على القرص المستدير الذي يتوسط السماء

انهمك حمدان في اللهو في أرجاء الحارة غير عابيء بلسعات خفيفة من البرد تطارد المارة وتدفع القطط إلى الانزواء أو الاحتماء بالأشجار العارية. أما فهيمة فقد لزمت مطبخ المنزل، تشارك في طهي الطعام وتردد بعض الأغنيات الذائعة وسط الأبخرة المتصاعدة من القدور التي تغلي. وانشغلت سنية بمهمة تنظيف المنزل بمساعدة أم سعاد, أملاً في أن يزداد جمال ورونق منزلها المتواضع، خاصةً بعد أن رأت بأم عينيها الحال الميسورة للجارة هنومة بما تملكه من أثاث جديد وكراسٍ خشبية وحوائط براقة تزينها الستائر الملونة

أما حسين فقد حافظ على عادته الغموض بالبقاء لساعاتٍ طويلة خارج المنزل، من دون أن يعلم أحد ما الذي كان يفعله ومع من يلتقي

يوم بدا لكثيرين مجرد يومٍ عادي آخر, لكن القدر كان يخبيء لعائلة رضوان أفندي مفاجأةً من العيار الثقيل
كان رضوان جالساً في مكانه المفضل بالمقهى وهو يرشف من فنجان القهوة حين وجد ابنه حسين يحث الخطى إليه قبل أن يقف في مواجهته وينحني قليلاً ليقول له بصوت أقرب إلى الهمس:

- أبي, أريدك في موضوع غاية في الأهمية
- طيب، اجلس وهات ما عندك يا دكتور
- الحقيقة.. أنني.. الأفضل أن أناقش الموضوع معك في البيت

وافق رضوان من دون أن يولي الأمر أهمية تذكر، فلم يكن هناك ما يدعوه إلى القلق..لكنه حين دخل منزله أحس بجوٍ من الترقب يحيط بغرفة الاستقبال..كان حسين في انتظاره جالساً وهو يفرك يديه إلى أن رأى والده فهب واقفاً ونادى على باقي أفراد العائلة كي يتجمعوا ويستمعوا إلى ما يريد قوله


تحلقت الأسرة حول حسين الذي طالت فترة صمته، حتى استعجلته الأم سنية لرغبتها في إكمال ما بدأته من أعمال المنزل، لكن حسين قال وهو يتعثر في كلماته:

- الحقيقة, هناك أمر معين أخرّني وأنا في انجلترا. شيء لا أدري كيف أقوله لكم, لكن يجب أن تعلموا به الآن على أي حال، فأنا لم أعد قادراً على إخفائه لمدة أطول
يحلق طائر الذهول فوق رءوس الجميع إلى أن تتساءل سنية في لهفةٍ قائلةً:

- قل لنا يا حبيبي، ماذا حدث لك في انجلترا؟

احمرت وجنتا حسين وهو يقول بصوت خافت:

- الحكاية أنني..

تسارعت ضربات قلب حسين وكاد الفضول والقلق يوقف خفقات قلوب باقي أفراد عائلته، في حين اتجهت العيون إلى حسين الذي قال وهو يغالب تردده:

- أنا ..أنا تزوجت من فتاة اسمها ليلى موسى, نصفها انجليزي ونصفها الآخر مصري و.. وأنا أب لطفلةٍ منها. أعلم أنها مفاجأة بالنسبة لكم جميعاً، لكنني لا أستطيع أن أخفي الأمر عنكم بعد الآن
كان حسين في أثناء كلامه المتردد يقف بين كل لحظة وأخرى.. وعندما فرغ من إلقاء قنبلته أخذت أمه بعينين ذاهلتين تردد من دون ملل:

- تزوجت "خواجاية يا حسين..تزوجت "خواجاية"

أما رضوان أفندي فهوى بكف يده على خد حسين.. وانهال على ابنه بشتائم قاسية زلزلت كيان الابن البكر للعائلة.. وسرعان ما سالت الدموع من العيون, وسط حالة من الصدمة والارتباك تلف المكان
تهاوت سنية بجسدها الثقيل على المقعد كأنها تريد أن تستنجد بأي شيء حتى لا تقع على الأرض وتنهار.. اغرورقت عيناها بالدموع .. وبدأت تندب حظها, وهي تلوم ابنها:

- هل هذه نهاية ثقتنا بك يا حسين؟ لماذا ؟

اشتعل الغضب في صدر رضوان مرة ثانية، فارتفع صوته وهو يصرخ في وجه زوجته طالباً منها أن تسكت قليلاً، إلى أن فوجيء بها الجميع تنخرط في بكاء مرير وهي تقول:

- الله يسامحك يا ابن بطني

وبينما الصاعقة تترك أثرها على الوجوه والقلوب, ذهبت فهيمة ناحية حسين ووضعت يدها اليمنى على كتفه, لتهزه وهي تقول باكية:

- لماذا يا حسين؟
نظر إليها حسين نظرة تمتزج فيها مشاعر الألم بالأسى.. من دون أن يمنحها إجابة تشفي غليلها

اقترب منه الأب قائلاً في غضب:

- هل هذه نتيجة موافقتي على سفرك إلى بلاد الغربة؟ تتزوج من دون علم أهلك؟ كيف حدث هذا؟
أطرق حسين برأسه وهو يقول:

- تزوجت على سنة الله ورسوله..والله!
- لكنك تزوجت من دون أن نعلم بالأمر ولم تستشرنا في شيء.. لا أصدق أنك فعلت هذه الفعلة
ووسط بكائها الحار الذي لم تفلح محاولات الابنة فهيمة في تهدئته، أخذت سنية تقول:

- حرام عليك, معقول أبقى جدة من دون أن أعرف!..وعندما أعلم بالأمر لا أتذوق حلاوة الإحساس باحتضان حفيدتي؟ معقولة ابني الذي كنت أثق فيه أكثر من نفسي وأتفاخر به، يفعل كل هذا من وراء ظهورنا جميعاً؟ ما ذنبها ابنتك المسكينة كي تحرمها من جدتها وجدها؟

- أنا نادم أشد الندم يا أمي!
- وما نفع الندم الآن!

نظر كل من حمدان وفهيمة إلى أمهما وهما يشفقان عليها بسبب بكائها ودموعها الغزيرة، في حين أخذ رضوان يتمالك أعصابه ليسأل ابنه قائلاً:

- والآن, ما العمل؟ لا أعرف يا ربي ما العمل!
سالت دمعتان على وجه حسين ثم انحنى على يدي أمه وهو يقبلهما قائلاً:
- أرجوك يا نينة, شوفي زوجة ابنك وحفيدتك.. دعينا نطوي صفحة الماضي ونفتح صفحة جديدة.. لقد استأجرت لهما شقة صغيرة في باب اللوق إلى أن أفاتحكم جميعاً في الأمر.. أرجوك.. أرجوكم جميعاً..اعتبروا أنكم كنتم تعلمون الأمر من البداية, ثم إن هذا زواج يا جماعة.. لم أرتكب إثماً لا سمح الله.. كل ما فعلته أنني أحببت فتاة وتزوجتها حتى رزقني الله بابنة جميلة منها


بدأت الأعصاب تبرد تدريجياً، وبدا كل من رضوان وسنية أكثر تقبلاً أو على الأقل خضوعاً للواقع والمفاجأة التي حملها إليهما ابنهما البكر.. هدوء شجع حسين على مواصلة حديثه مخاطباً والده هذه المرة قائلاً:

- هل ترضى يا أبي ألا ترى حفيدتك الأولى التي تبلغ من العمر عاماً ونصف العام؟ إن زوجتي هي ابنة جديدة لك. أشعر بجرح عميق في قلبى, وأنتم جميعاً علاجي الوحيد من هذا الألم الذي ظل حبيساً في صدري طوال الفترة الماضية. قولوا إنكم موافقون على رؤيتهما.. أرجوكم

تبادل الجميع النظرات وانطلقت من الأعين رسائل تتراوح بين الاستعطاف والتردد والحزن، إلى أن قطع رضوان الصمت ببطء وتردد قائلاً:

- موافق, لكن بشرط
تهلل وجه حسين قائلاً:

- كلامك أوامر يا أبي
- أريد أن أرى حفيدتي فقط. لست راضياً لا عن زوجتك ولا عنك يا حسين
وافق حسين من دون تردد على طلب أبيه, بعد أن وجد في هذه الموافقة المشروطة فرصة لإنهاء ولو جزء من معاناته مع سر زواجه السري، على أمل أن يذوب جليد الجفاء تدريجياً وينجح يوماً في لم شمل عائلتيه الكبيرة والصغيرة
ولأول مرة منذ بدء هذه المصارحة العاصفة التي هزت المنزل الهاديء، ارتفع صوت حمدان فجأة ليسأل في براءة:

- حسين.. ما اسم ابنتك؟
لاحت على وجه أخيه ابتسامة خفيفة ومسح دموعه بطرف قميصه وهو يقول:

- اسمها سارة.. سارة حسين

مصر في حارة: 10


محمود دياب
" 10 "
جاءت أيام الشتاء الهامدة, رش السكون مسحوقه السري على شوارع الحارة.. الحديث الوحيد بين سكانها الصمت، كأنهم سئموا الثرثرة طوال باقي فصول السنة، واستعدوا لحالة من البيات الشتوي التي تصل إلى حد السبات
راود فهيمة رضوان شعور بأن أيام غياب الأخ حسين قد عادت بعدما كانت العائلة تتوقع انتهاءها.. كان الشاب كثير التنقل من مكان إلى آخر كأنه يبحث عن شيء ما غامض يبحث عنه. تشاجر الأب معه كثيراً، حتى إنه قال له ذات يوم بصوته الجهوري:
- لم نعد نراك كثيراً يا حسين، ماذا جرى.. أين تذهب؟
فلا يخرج حسين عن هدوئه، ويجيب قائلاً بنبرة أرادها محايدةً: "ذهبت إلى العمل ونسيت نفسي" أو "أحببت أن أتنزه فسرقني الوقت"
ويصدقه رضوان أفندي بعدما تستر بالحدة حتى يخفي السذاجة, وقد صدقته الأسرة بأكملها.. إلا فهيمة, حيث تتبعت بذكائها الفطري تصرفات وردود فعل أخيها لتحصل في كل مرة على النتيجة نفسها: "يوجد سرٌ ما يخفيه أخي". تلف الفتاة وتدور على أخيها لكن من دون جدوى، إذ إن نباهة حسين وهدوء أعصابه جعلاه يتجاوز الاختبارات والحيل التي لجأت فهيمة إليها لاستدراجه وربما دفعه إلى الكشف عن مكنون صدره
تحاول الفتاة ألا تشغل ذهنها، لكنها سرعان ما تعود وتلاحظ كثرة غيابه. غير أن الأحجية بقيت غامضةً تبحث عن قطعة أخيرة

وفي صباح يوم جمعة كان حسين يحتسي كوباً من الشاي ويقلب صفحات الجريدة بيده الأخرى، حينما تذكرت الأم فجأة حكاية زيارة صديقه القديم طاهر له خلال فترة سفره. انتبه حسين وترك من بين يديه الجريدة متوقفاً عن قراءتها ليسأل أمه:
- هل قال لك أين يسكن يا نينة؟ أود أن أزوره
فتسرع سنية كأنها تتباهى بأن ذاكرتها لم تحنها هذه المرة.. فتقول:
- يسكن بجانب بقالة البحيري التي تقع قبالة قهوة عم داود
- عظيم، سأزوره اليوم إن أمكن ذلك. كم أود أن أراه هو ومحمود.. من يدري ربما نجتمع في شقته، مثل أيام المرحلة الابتدائية
وانتهى الحوار من دون هدف، فأكملت سنية احتساء قهوتها في حين واصل حسين مطالعة الصحيفة
وفي منتصف النهار، حيث ضوء الشمس ينشر حضوره الطاغي على سماء المدينة، ذهب حسين لزيارة صديقيه، ليفتح له باب البيت شاب أسمر, ربعة، تجمع نظرة عينيه بين السذاجة والبراءة.. يتطلع إليه حسين لأول مرة ثم يسأل قائلاً:
- مساء الخير.. هل طاهر ومحمود موجودان؟
فيسأل الشاب بصوته الممتليء:
- نعم.. من أقول لهما؟
- قل حسين .. حسين المنياوي
- عفواً..هل قلت حسين المنياوي؟
فيجيب حسين وابتسامته الواثقة تتسع:
- سيتعرفان علي بمجرد إبلاغهما بقدومي إلى المنزل
ينظر الشاب إلى حسين بعينين متسائلتين, ثم ينادي على صديقيه, فيأتي طاهر, وبعد لحظة يقبل محمود بعينين نصف مغمضتين كأنه كان مستغرقاً في النوم، أما عينا طاهر فتلتمعان وتتسع ابتسامته وتظهر غمازتا وجنتيه اللطيفتين، مرحباً:
- حسين المنياوي صديق عمري؟
يهز حسين رأسه موافقاً, فيضمه طاهر بين ذراعيه, ويربت على كتفه في ودٍ بالغ. يبادره حسين بالسؤال:
- كيف أحوالك يا صاحبي؟
- أنا بخير يا حسين, تفضل يا صديقي
حتى تلك اللحظة, لم يكن محمود دياب يتذكر جيداً زميل دراسته حسين, مع أنه لمس مدى عمق الصداقة التي تجمع بينه وبين طاهر ..غير أن حسين كسر حاجز الجليد بينهما سريعاً, وحاول إنعاش ذاكرته وسرد طرفٍ من حكايات الصبا, لتضيء ذاكرة محمود تدريجياً ويرتسم طيف ابتسامةٍ خفيفةٍ على ملامح وجهه. محمود هو محمود, احتفظ بالشخصية القديمة نفسها التي تظهر من الريبة والشك ما يثير لدى الآخرين شعوراً بالتحفظ وربما النفور من التعامل مع صاحبها. انطوائيته لا تخفى على أحد، لكنه لا يمانع في التعامل مع الآخرين ما داموا ضيوفاً لا رغبة لديهم في الإقامة طويلاً بين جنبات عقله أو ذاكرته. كان شخصية صامتة معظم الوقت، فلا يبدأ حديثاً ولا يطلق ضحكة ولا يفجر نكتةً تشيع أجواء من البهجة في جلسات الأصدقاء
مرت فترة من الأحاديث المتواصلة ومن ثم سألهما حسين عن ذاك الشاب الذي فتح باب الشقة, فاتضح أنه زكريا القناوي, صديقهما رقيق الحال الذي يتقاسم معهما بصعوبة بالغة وعناء شديد نفقات العيش في هذا المسكن المشترك
كم كان ذاك اليوم حافلاً بالأحاديث والحكايات, حتى إن حسين أصر على دعوة طاهر ومحمود وزكريا لزيارته في منزله. أشرق وجه طاهر الذي بدا أكثر الثلاثة سعادةً بهذه الدعوة الكريمة... فهو لم ينس يوماً تلك الملامح المتدفقة بالبراءة والجمال لفهيمة المنياوي. ومع أن الظروف لم تسمح له من قبل سوى بتبادل التحية العابرة فإنه كان يشعر بشيء غامض يهز مشاعره كلما وقعت عيناه عليها
وفي نهاية اليوم الطويل, ودع حسين أصدقاءه الثلاثة, وعاد متأخراً إلى المنزل ليحكي بسرور لكلٍ من أمه وشقيقته عن لقائه بعد طول غياب مع أصدقائه القدامى, كأنما طفل صغير يحكي عن مغامرة شائقة حدثت له للتو
أما فهيمة فلم تكن تلقي بالاً لهذه الحكايات، سوى لمجاملة شقيقها الأكبر.. لم تكن تشعر بأي شيء عندما يتردد أمامها اسم طاهر، الذي كان يذوب عشقاً لمجرد ترديد اسمها أمامه

Saturday, March 10, 2007

مصر في حارة: 9



هنومة نصار
" 9 "



مقبولة الوجه..شعرها البني تختلط به خصلات مصبوغة باللون الأشقر.. ملفوفة القوام مع ميل واضح إلى الامتلاء لم تكن الملاءة السوداء قادرة على إخفاء انحناءاته الأنثوية..ابتسامتها الواسعة تكاد تلغي باقي تفاصيل المساحة بين أذنيها..صوتها العالي طاغيةٌ يسود المكان، وضحكتها المجلجلة تستمتع بالصخب، في حين تطلق نظراتها الجريئة سهامها التي لا تخطيء الهدف. ضاق جسدها المكتنز بثوبها الأحمر الذي تزينه رسومات كبيرة للورد والفراشات الملونة

أطلت برأسها من حنطور كبير, ثم تحركت ببطء خارجة منه لتلمس أرض الحارة.. أخذ كل من فهيمة وحمدان يتابعان في ذهول تلك الوافدة الجديدة على الحارة. نظرات التقطتها السيدة التي تجاوزت سن الثلاثين


اقتربت من فهيمة حتى غطت ظلالها وجه الفتاة، ثم وضعت يدها تحت ذقنها، قائلةً بأسلوب متوددٍ:


- ما شاء الله، الله أكبر. كم أنت جميلة, ما اسمك يا شاطرة؟

لم تبتسم فهيمة التي تضايقت من الروائح العطرية النفاذة التي حاصرتها فجأة، بل أجابت بصوتٍ يفتقد حرارة الترحاب:
- اسمي فهيمة, ومن أنتِ؟
- أنا ساكنة جديدة في الحارة..
اسمي هنومة

وبينما كان الحديث دائراً بين هنومة وفهيمة, لاحظ حمدان أن خطى تلك السيدة جهة سيرها تتجه إلى المبنى القديم الذي يعيش فيه مع عائلته, فأشار بسبابته إلى المبنى وقال متسائلاً:

- أنت قادمة إلى هذه العمارة يا أبلة؟

أجابت هنومة بابتسامتها العريضة حتى بانت الغمازتان اللتان تزيدان من ملاحة وجهها:
- نعم يا حبيبي.. سأسكن في الدور الأول

هتف الصبى في حماس:

- أتعرفين؟ أنا والعائلة نعيش من زمان في تلك العمارة
- عظيم، ستكون بيننا إذاً علاقة محبة ومودة

ساعدها كل من حمدان وفهيمة في حمل حقائبها الثقيلة وأغراضها الكثيرة, ثم ذهبا إلى بيتهما وأخبرا أمهما عن تلك الجارة الجديدة. وبطيبتها المعتادة تساءلت الأم في فضولٍ قائلة:
- جارة جديدة؟ سأزورها غداً إن شاء الله ربما تكون في حاجة للمساعدة في ترتيب بيتها. أما اليوم فسأتركها لترتاح قليلاً

ومع إطلالة الصباح تقف سنية على باب شقة الساكنة الجديدة وتطرق عليه لتفتح لها هنومة مرتديةً قميص نوم لونه أصفر باهت, في حين تحيط رقبتها المكتنزة بسلاسل ذهبية ثمينة ويتدلى من أذنيها قرطان ذهبيان دائريان كأنهما حلقة نار يقفز منها لاعبُ سيرك.. لكنها لم تكن تضع مساحيق الزينة التي كانت تتزين بها عندما قابلت فهيمة وحمدان

بادرتها سنية باسمةً:

- مساء الخير. أنت الست هنومة جارتنا الجديدة؟
- مساء النور..نعم..أنا هنومة
- أنا سنية أم فهيمة, الصبية التي تحدثت معها البارحة
- آه.. تفضلي بالدخول يا حبيبتي. البيت بيتك
تسمح هنومة لسنية بالدخول وتستأذنها للحظات, فتبدأ الزائرة رحلة الاستطلاع الفضولي والنظر في أرجاء الشقة وأثاثها الجديد الذي يدل على الحالة الميسورة التي كانت عليها هنومة

الصالة الكبيرة تتوسطها مائدة طعام ذات كراسٍِ خشبية بينة اللون ومساند من القطيفة. وفي الصالون الذي تغطي شرفاته ستائر حريرية بيضاء تحتل أريكة وثيرة موقعاً رئيسياً، وإلى أمامها مائدة صغيرة ينام عليها إناء للزهور ومنفضة سجائر أنيقة. وعلى الجدران تطل صور عدة تشم منها رائحة الزمن. الجرامفون القديم كان مستنداً على قاعدة خشبية ذات لونٍ بني داكن في أحد أركان الصالة كأنه شيخ وقور غارق في التأمل..جرامفون؟ كانت سنية تحلم دائماً باقتناء مثل هذا الجهاز على سبيل الوجاهة لكن ثمنه كان يفوق قدرات عائلتها
وسط اندهاش سنية من فخامة الشقة وحسرة عينيها اللتين كانتا وسيلتها لالتقاط صور فوتوغرافية تحفظها في ذاكرتها عن منزل الجارة, عادت هنومة إليها بابتسامتها العريضة وصوتها المرتفع مرحبةً بالزائرة

بدت الجارة الجديدة وهي تسير بدلال في شقتها كأنها قطعة جيلي تهتز في طبق تكاد تقفز منه إلى الخارج...مشهد قد يسيل له لعاب الرجال


هبطت هنومة بأرطال لحم جسدها البض على الكرسي الخاص بها وهي تقول لزائرتها:
- فهيمة ابنتك جميلة للغاية, وحمدان مثل الشربات

ردت سنية وقد أشرق وجهها:

- عندي ابن أيضاً درس الطب, ما شاء الله شاب مثل الورد, اسمه حسين. الذرية الصالحة فضل من عند الله ونعمة
- آه طبعًا. أنا عندي ابن اسمه عادل, في الثالثة من عمره, هو ابني الوحيد من طليقي الأخير محمود

ابتسمت الست سنية, ثم قالت بفضولٍ, باحثةً بعينيها الحائرتين عن عادل:
- وأين هو ابنك؟ لم أره بعد
- عادل ليس هنا, بل إنه يعيش مع والدتي في الأنفوشي بالإسكندرية, وأزوره كل جمعتين
- لماذا ؟ الأطفال نعمة من عند الله
- طبعاً طبعاً.. لكن ظروف عملي صعبة، وتأخري خارج المنزل يجعلني غير قادرة على رعايته..فهو ما زال في سن صغيرة
- عملك؟..ماذا تعملين يا أم عادل؟

بلهجةٍ فاترة جاءت إجابة هنومة:

- راقصة

ارتبكت سنية من وقع المفاجأة كأنما وجدت نفسها فجأة في مواجهة قطار يسرع باتجاهها, فقالت والكلمات تتعثر على شفتيها:

- ماذا؟ راقصة؟..أعوذ بالله..ربنا يغفر لك
رفعت هنومة حاجبيها المزججين كخط رفيع قبل أن ترد بحسمٍ ولهجة مستنكرة:
- لماذا؟ هل الرقص سيء إلى هذا الحد؟

هبت سنية من مجلسها واستأذنت في الانصراف لتفر من منزل هنومة هاربةً بأقصى سرعة كأنها تبتعد عن وباء الطاعون, في حين بقيت هنومة جالسةً ببرود شديد على كرسيها المرتفع, لا يشغل بالها شيء ..ربما هي حالة من عدم الاكتراث برأي الآخرين ونظرتهم إلى مهنتها بعد أن اعتادت على نفورهم ممن تعملن راقصات. كانت تعلم منذ البداية أنها لن تحظى بالعديد من الجارات في الحارة بسبب عملها كراقصة. قالت لنفسها: "نساء تافهات ورجال أكثر تفاهة.. يتهربون مني لكنهم حين يريدون إحياء أفراحهم وإدخال السعادة والسرور على قلوبهم لا يجدون غيري لإسعادهم وإحياء لياليهم الساهرة.. مسكينة الست سنية"

وعلى درجات السلم المؤدية إلى شقتها، كانت سنية تحوقل وتستغفر قائلة: "راقصة! أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. لم يكن ينقص الحارة إلا هذا"..في حين كان صوت هنومة يتناهى إلى سمعها وهي تدندن بأغنية عابثة من تلك التي اعتادت أن ترقص على إيقاعها في الأفراح والليالي الملاح

وما بين درجات السلم المؤدية إلى الطابقين اللذين يفصلان بين منزلي المرأتين، كان هناك عالم واسع شاءت الظروف أن يجمع بينها في الحارة ذات الدروب الضيقة

Friday, February 9, 2007

حارتى البسيطة..و"الشارع" الكبير


كان ذلك فى نهار يوم الجمعة، 9 فبراير: نهار المفاجأة الرائعة التى دفعتنى إلى التحليق كأننى طائر السعادة والفرح

كان الهواء شديد البرودة عندما استيقظت متأخرة ومتكاسلةً قبيل الظهر، وبدأت روتين حياتى اليومية فى آخر أيام إجازة منتصف العام الدراسى. ولما عاد أبى إلى المنزل فاجأنى ببضع أوراق يحملها بين يديه. ظننت فى البداية أنها أوراق خاصة به، لكننى اكتشفت لاحقاً أنها تتعلق بى شخصياً، إذ وجدت بها مقالة مدهشة تتحدث عن تجربتى الصغيرة فى كتابة روايتى البسيطة: مصر فى حارة

كانت مفاجأة عقدت لساني.. إنها المرة الأولى التى أجد فيها شخصاً آخر غير أبى يهتم بى إلى هذا الحد الكبير، ويشجعنى ويزودنى بالنصائح التى تهدينى إلى تجربة أكثر عمقاً فى عالم الرواية. أخبرنى أبى أنها مكتوبة فى مدونة تدعى "الشارع" بقلم الأستاذ عبد الحق

خفق قلبى بشدة وتسارعت دقاته، وسيطر الفضول على عقلى حين أخذ أبى يقرأ علىّ بصوته الهادىء المحبب إلى النفس ما هو مكتوب فى تلك الأوراق المطبوعة من مدونة "الشارع". ومع كل سطر كنت أكتشف عالماً جديداً كان أبى يحدثنى عنه دائماً بثقةٍ وتفاؤل: الذين يعطون من قلوبهم وأرواحهم ولا ينتظرون المقابل

وجدت فى التدوينة نقداً شاملاً أدهشنى، كما قرأت فيها مجموعة من الملاحظات والتعليقات المهمة التى ستفيدنى فى الكتابة الأدبية وعندما أحاول كتابة أى محاولات إبداعية جديدة فى المستقبل إن شاء الله

تعثرت الكلمات بين شفتى ولم أقدر إلا أن أبتسم وأتأمل الكلمات التى شجعتنى كثيراً و أفادتنى، بل لم أدر ما أفعله. لم تكن الكلمات كافية كي أجيب على تلك الكلمات الراقية، ولم أكن لأستطيع أن أرد بالعرفان المناسب لهذا الجهد الكبير وتلك الأوصاف الرائعة التى أهدانى إياها صاحب مدونة "الشارع" مهما حاولت أن أفعل

الشكر سيظل أقل مما ينبغى والتقدير سيكون دائماً متواضعاً بالمقارنة مع هذه التدوينة الاستثنائية التى منحتنى شعوراً يفوق الوصف والخيال

أنا محظوظة

نعم.. فقد كتب عنى صاحب مدونة "الشارع" مقالاً له طعم خاص ووقع رائع على عقلى وذاكرتى، مثلما كتب لى الدكتور أسامة القفاش من قبل رسائل عبر البريد الإلكترونى نبهتنى إلى أخطاء كنت أقع فيها بحكم تواضع تجربتى وخبرتى فى الكتابة.. كما التقيت مرة الروائى الشاب محمد علاء الدين الذى استفاض فى الكلام عن أسلوب كتابة العمل الأدبى، وكنت أتابع حديثه باهتمام شديد. كذلك وجدت تعليقات مهمة ومشجعة من سامية جاهين وتوتا ورات وشروق وشريف نجيب وعدد كبير آخر من المدونين تجعلنى أحس بأننى أكتسب منهم خبرات شديدة الثراء تضيف إلى رصيدى الكثير

اليوم الجمعة حمل لى شعوراً مختلفاً عما أشعر به كل صباح، خاصةً عندما فتحت مدونة "الشارع" للأستاذ عبد الحق ذات الموضوعات الهادفة التى جذبتنى إلى قراءتها والاطلاع عليها، وأنا أرجو من الله أن ينال باقى فصول قصتى اهتمامه وإعجابه، وأن أكون دوماً عند حسن ظنه، حيث علمت من أبى أنه رجل مثقف ذو خبرة كبيرة ورؤية عميقة. وما زلت أذكر رد فعل أبى عندما علم فى بداية رحلتى مع التدوين أن هذا الكاتب المحترم ترك تعليقاً عندى، إذ قال لى: عبد الحق كتب لك؟ هذا رائع.. أتعرفين قيمة هذا الرجل؟.. ثم أخذ يحكى لى عنه بكل تقدير وإعجاب

ومن يومها وأنا أفرح كلما أرسل لى تعليقاً أو ملاحظة بخصوص روايتى الأولى. وقد اقتنعت شخصياً بثقافته العريضة فى الأدب والسياسة عندما طالعت مدوناته، حيث إنه يكتب موضوعات هادفة بطريقة منظمة وبسيطة، وتأكدت عبر أسلوبه الرصين والسلس أنه يحب ما يكتب ويملك رسالة وأفكاراً جادة يريد توصيلها إلى القراء

أستاذ عبد الحق: أشكر حضرتك شكراً جزيلاً مرة ثانية لاهتمامك بى، كما أشكرك على الشعور الجديد الذى شعرت به عند قراءة ما كتبت من ملاحظات. أرجو ألا تبخل علىّ بتعليقاتك النافعة وأن تخبرنى برأيك وملاحظاتك على فصول قصتى وأسلوب كتابتى

أنا من اليوم أعتبرك صديقاً كبيراً وأستاذاً أتعلم منه كيف أشق طريقى فى عالم الكتابة.. وكم أتمنى من كل قلبى أن أحقق فى المستقبل ما يتفق مع الرؤية المشرقة التى تتوقعها لى، وأن أستحق يوماً ما هذا "السلام المربع" الدافىء الذى منحته لى

الله.. ما أجمل يوم الجمعة

Thursday, February 8, 2007

مصر في حارة: 8

حسين رضوان
" 8"
ساد الظلام الدامس أنحاء الحارة، وبسط الهدوء نفسه على أرجائها بعد يوم آخر من الحركة والجلبة والصياح والعمل المتواصل. نام بعض أهالي الحارة استعداداً لأيام مقبلة من العمل والبحث عن الرزق في دروب الحياة، وسهر فريق آخر بحثاً عن الألفة مع الأصدقاء والأصحاب، لكن الغالبية لزموا بيوتهم بسبب برودة الجو

وحده الهدوء كان سيد الموقف

حتى أصوات الحوارات الثنائية والنقاشات حول شؤون وشجون الحياة كانت تنتقل كالعصافير في تلك الحارة الشعبية الوديعة.. الموسيقى التي تتسلل من شباك أحد الساهرين، والصوت المنبعث من جهاز تليفزيون يعرض فيلماً كلاسيكياً قديماً.. كلها تلاقت في أجواء الحارة، في حين أخذ كل واحد يسبح في عالمه الخاص

أما الهدوء فكان يتولى توزيع تلك الأصوات على البيوت المتراصة بقسمةٍ عادلة.. أصوات قد لا يسمعها الناس في النهار حيث تختلط نداءات الباعة الجائلين ولهو الأطفال ونميم الجارات المتبادل عبر الشرفات الخشبية والمشربيات التي تفوح منها رائحة التاريخ
كان حمدان مستلقياً على سريره، وقد بدأ يغوص في دنياه الصغيرة، عندما سمع نداءً ملؤه اللهفة:
- يا رضوان أفندي .. يا أم حسين ..استيقظا
هذا الصوت الخشن..مألوف.. مُنتظر كأنه نبي.. خفق قلب الصبي، وانتبهت حاسة السمع لديه لتلتقط تفاصيل الصوت للتأكد من هوية صاحبه .. بكل دقة ممكنة، ولم تكن الدقة من عاداته

صوت جعله يتجمد في مكانه, أيقظ أحاسيسه لتتدفق دماؤه في شرايينه كأنها في حالة تأهب واستنفار, فأطل برأسه من النافذة واللهفة تسري في عروقه الساخنة. إنه يأمل بأن يكون ظنه صحيحاً

نظر بعينين يملؤهما الأمل فرآه بوضوح

إنه حسين.. أخوه الغائب منذ سنوات، يقف تحت النافذة..ها هو حسين بقامته القصيرة وبنيته العريضة..ها هي عيناه الذكيتان ووجنتاه المنتفختان، كل شيء مضبوط، فيصيح الفتى منادياً بلهفة:
- حسين؟ حسين أخي؟
ابتسم حسين -فيرى أنها نفس الروح العميقة- وأجاب مداعباً:
- نعم، أنا يا أستاذ حمدان. افتح لي الباب بسرعة، أو نادي على أم حسين أو أبيك، أسرع يا ولد!

يكاد الفتى لا يصدق نفسه بعد ذلك الانتظار الطويل, فيقف لفترة طويلة دون حركة، وعيناه تلتمعان ببريق الفرحة واللهفة على أخيه, فيناديه حسين كأنما يوقظه من حلم:
- نمت يا حمدان ؟!
يقهقه حمدان من قلبه, ثم يركض إلى غرفة والديه النائمين ليوقظهما من عالم السكون إلى دنيا المفاجآت، ثم ذهب يسابق خطاه ليوقظ فهيمة, والابتسامة تعلو وجهه, فيفتح الأب باب العمارة بعباءته البيضاء الهفهافة، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة، وقلبه ينبض بالسعادة والأمل.. الصفات التي فقدها -وربما افتقدها- لبضع سنوات مضت

من وسط سحابة دموعها تراه الأم سنية، ثم تتأمل قسمات وجهه التي كانت قد حرمت منها لفترة ظنتها دهراً, فتخال أنها تحلم, لكنه يبدو لها على أي حال مثل رؤيةٍ رائعة تأتيها في منامها.. وهو أيضاً، اشتاق إلى كل تلك الصور والوجوه التي أمامه: دوامات الحنين تصنع فينا كل ما ما يشكل وعينا في لحظات

إنه يشتاق إلى هذا العناق حين ضمته أمه بين ذراعيها الممتلئتين, فينضم إلى أعماق طرية, والدموع تتساقط من عينيها العسليتين. ها هو يعود طفلاً إلى حضن أمه كأنه يتكور ليصبح جنيناً يعود إلى رحم تلك السيدة التي تنظر بدورها إلى السماء الداكنة، وتلهج بالشكر:
- الحمد لله يا رب.. الحمد لله
يضم رضوان أفندي ابنه البكر ويحمد الله ويشكره هو الآخر. تقع عينا حسين على أخته الصغيرة, فتغرورق عيناها بالدموع, لكنها تتحرك من على السجادة ذات النقوش القديمة، وبعد دقيقة تضع يدها اليمنى تحت أنفها الدقيق, وتزغرد تلك الزغرودة التي ترن في أذن كل فرد من أفراد الحارة، ثم ترفع يديها وتهتف من قلبها:
- الحمد لله يا رب العالمين
والزغرودة تتكفل بتحريك الجو الهاديء في الحارة كأنها إعلان غير مدفوع الأجر عن وقوع حادث سعيد، فيتمتم بعض متسائلاً في فضول: "خير إن شاء الله"، في حين يصبح للزغرودة صداها الفوري، فترتفع زغاريد الرد من جنبات الحارة، حتى قبل أن تفهم كثيرات حقيقة ما جرى
يدخل حسين منزله بخطى صغيرة، وعينين تتأملان وترصدان لمسات التغيير بفعل الزمن الذي غاب فيه عن المكان، فتقول له أمه:
- يا حبيبى.. لن نسمح لك أبداً بالخروج من البيت قبل أن نشبع منك ومن الحديث معك ومعرفة أخبارك.. لكن قل لي في البداية ما الذي أخرّك كل تلك المدة الطويلة؟
ينظر حسين إليها لدقيقة وكأنه على وشك أن يقول شيئاً، ثم يهز رأسه ويهمس:
- أنا غاية في السعادة لأني عدت إلى بيتى وأهلي وناسي... والله لم أنس أحداً منكم، ولو ليوم واحد
تشيع البهجة دفئاً خاصاً في أرجاء المنزل، إلى أن أحضرت فهيمة وعاءً فيه ماء ساخن وهي تقول باسمة لدى جلوسها عند قدمي حسين:
- سأغسل قدميك بالماء الساخن المنعش

وما إن شمر حسين عن قدميه ويرفع أطراف بنطاله الرمادي اللون, حتى لاحظ الجميع تغير لون رجلي الشاب العائد واحمرارهما, فتشهق الأم وتتساءل في حنو:
- خير يا ولدي, ماذا حدث لقدميك؟
ضحك حسين على انفعالها, فقال مبتسماً:
- لا شيء يا أمي, لا تجعلي من أتفه سبب مشكلةً ضخمة! ربما التهبت قدماي خلال يومي الطويل إلى أن عدت إليكم . لا تقلقي عليّ بعد اليوم يا أم حسين
ارتسمت على وجه سنية ابتسامة اطمئنان, ثم قالت بهدوءٍ وحنان:
- وما الذي جعلك تغيب عنا يا حبيبي طوال هذه السنوات؟ ولماذا كانت رسائلك قليلة وتأتينا على فترات متباعدة؟

احمر خدا حسين فجأة, فقال والكلمات تتعثر على شفتيه:
- ليس هناك من سبب معيّن, لقد طالت مدة المنحة, ونسيت في غمرة الدراسة ومتطلباتها الوقت والزمن. المهم أن المنحة انتهت وأنني عدت إليكم.. سأستقر معكم إلى الأبد, ولن أسافر مرة ثانية أو أبتعد عنكم إن شاء الله

ابتسمت سنية في رضى وسعادة, وشعرت بأن الدنيا عادت لتمسح عنها دموعها وتغسل قلبها من الأحزان التي سكنت قلبها لسنوات طويلة
لكن السعادة طائر لا يقيم طويلاً ولا يعرف كيف يصنع له عشاً في قلوبنا.. والفرحة تفهم فقط لغة الترحال كأنها لا تحب الاستقرار في مكانٍ ما

السعادة؟
إنها استراحةٌ قصيرة وسط عذابات كثيرة

Thursday, January 11, 2007

مصر في حارة: 7







سلوى مقار
" 7 "



هو لا يتوقف عن الغناء و الطرب على أرصفة الحارة الضيقة. يشبع حاجاته واحتياجاته من الطرب والغناء.. يعلو صوته المجلجل المتميز, فيسمعه جميع أهالي الحارة بآذان منصتة وصاغية وربما يلتفون حوله... يغني ويطرب عن الحب والكراهية والظلم والعشق والخداع, فيكسب بعض المال، قبل أن يقفل عائداً إلى منزله الذي يقع في حارة مجاورة لحارة الشرف

نعم, إن هذا هو عمله, يؤدي بإتقان الأغنيات والأدوار والمقامات التي لا تنسى من التراث الغنائي على الأرصفة الخالية, ويتحول في لحظات التجلي إلى إذاعة خاصة لهؤلاء البسطاء الذين يلحون عليه كي يؤدي أغنية تعلقت بذاكرتهم وربما لامست قلوبهم، فيتسجيب في رضى وسماحة.. قبل أن يضع عدد من المتجمهرين حوله بعض ما تجود به أنفسهم من مال في الصندوق الصغير الذي زينه برسومات وصور له ولقب خلعه على نفسه: سلطان الطرب

يجلس أبوه العجوز على كرسي خشبي بجواره, حيث لا يكف عن مطالعة الجرائد ومتابعة الأحداث المنشورة كأنه يبحث عن خبرٍ ما ينتظره.. لكن أذنيه دائماً مع الابن بصوته الرخيم كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة.. فتسمع الأب يقول بإعجاب "الله" كلما أطربه صوت ابنه الشجي

وعلى مقربة منهما تتبادل سنية الحديث مع سعدية عبر نوافذ ذات المشربيات التي تنفتح وقت اللزوم على عالم الحارة, فتبادر سنية بالقول لصديقتها:
- لاحظي يا سعدية تلك النظرة الحزينة التى تشع من الابن, وأبيه صموئيل مقار!
ضحكت سعدية ملء فمها حتى بانت أسنانها، وقالت وهي تأخذ رشفةً من قهوتها الحارة:

- ماذا ألاحظ يا أم حسين؟ صموئيل مقار وابنه ناجي مجنونان للغاية...آه و الله. لم أسمع أبداً عن شخص يعمل في الشارع مطرباً. من يسمح لنفسه أن يغني ويطرب في منتصف الشوارع؟ أي جنون هذا؟ لست أتصور شخصاً يكسب المال بهذا العمل.. ثم إنها ليست وظيفة.. وهي أيضاً عمل غير مستقر.. يوم فلوس.. ويوم لا

- والله عندك حق, لا أحد يتعامل مع الأب وابنه, لكن هناك من يحب أن يسمع صوت الابن, بدليل أنه يكسب المال من تلك الوظيفة

كانت سنية محقةً في رأيها.. هناك بالفعل من يحب ويعشق صوت الابن ويسمعه يومياً وهناك من يمنحه بعض المال لذوقه في اختيار وأداء الأغنيات.. كانت على حق أيضاً عند قولها إنه ليس هناك الكثير من أهل الحارة ممن يتعاملون معه خارج نطاق الغناء.. وكان أبوه, صموئيل مقار, أباً أرمل له ولفتاة صغيرة, تماثل فهيمة في العمر أو أصغر منها بقليل تدعى سلوى. لم يكن أخوها ناجي ولا أبوها صموئيل يسمحان لها بالنزول إلى شوارع الحارة المزدحمة كثيراً, وكانا يطلبان منها أن تلهو مع جيرانها في فناء المنزل القديم.. ربما لأنهما كان يخشيان من ألسنة اهل الحارة ويريان أنها إذ نزلت أو حتى لمست أرض الحارة, سيكون هناك العديد من الأشخاص الجاهزين لجرح مشاعرها والاستهزاء من عمل أخيها، في مجتمع ينظر إلى الغناء في الشوارع باستهجان ويعتبره في النهاية نوعاً من التسول

وذات يوم أخذت سلوى تبكي وتلح كي تنزل إلى الشارع لمدة صباح واحد, تلعب وتلهو كجميع أبناء الحارة, فوافق الأب صموئيل بعد تردد كبير وطويل.. ركضت الصغيرة على الفور بسعادة حتى رأت بعينيها الجميلتين ذلك الشارع الضيق.. لحظتها شعرت بالهواء النقي يداعب وجهها ويلامس جسدها الغض ويعبث بشعرها الكستنائي القصير. فجأة لمحت فتاة وصبياً صغيراً, فراودها إحساس أقرب إلى اليقين: إن اللعب معهما سيكون شائقاً ومسلياً

اقتربت منهما ببطء وقالت برقة:
- مساء الخير
- مساء النور, من أنت؟
- أنا سلوى, وأنتما ؟
قال الفتى:
- أنا حمدان .. وتلك أختي فهيمة

نعم, إنهما فهيمة وحمدان اللذان اندمجا معها بسرعة كأن ثلاثتهم أصدقاء العمر..وسرعان ما اتخذ الشقيقان منها صديقة, لعبت وركضت لتسابق الريح وسط ضحكاتها الطفولية, ووجداها تملك من الطاقة والحيوية ما أضفى عليها جمالاً أخاذاً.. فقال لها حمدان:
- غريبة يا سلوى, كيف لم نر وجهك من قبل. أعتقد أنك لا تلعبين هنا كثيرًا, لكن أنت ابنة مَن في الحارة؟

خفق قلب سلوى وترددت, ثم قالت في ضيق اختلط باضطرابها:
- ابنة الجزار أو النجار, أو حتى العفريت الأزرق, ماذ يهم؟ لا يهم ابنة مَن.. المهم أن اسمي سلوى

ابتسم حمدان بود وبراءة. وبعد فترة صمت قصيرة دس يده في جيبه وأخرج منها كنزه الكبير: قطعة حلوى كان قد اشتراها في الصباح..منحها بود إلى صديقته الجديدة التي أخذتها وهي تشعر بالفرح كأنه منحها ثروة ضخمة..قبل أن يقول حمدان:
- عندك حق يا سلوى. والآن, هيا لنجد لعبة حلوة نلعبها معاً, لنغني سوياً, وسنرى من صوته الأجمل

وافقت سلوى على اقتراح الغناء, ووجدته لعبة مسلية فأخذت تصدح بأغنية "أوعى تكلمني, بابا جاي ورايا"

صوتها الذي ينساب كنهرٍ متدفق أدهش الطفلين الآخرين..فقالت فهيمة بأسلوبها المتكبر:
- صوتك جميل يا سلوى يا بنت الذي لا نعرفه, لكن صوتي أنا الأحلى
وافق حمدان على ما قالته شقيقته بشأن صوت سلوى:
- نعم, صوتك عجيب.. كأنك تغنين باستمرار

ثم قال فجأة:
- عندنا في الحي رجل اسمه ناجى مقار, أو ناجى صموئيل مقار ... صوته رائع, أحب أن أسمع صوته, لكن هناك من قال إنه متسول, يكسب ماله من الغناء في الشوارع وتسول النقود بهذه الطريقة

ارتبكت وغضبت سلوى من الحديث عن أخيها الوحيد, وكادت أن تغير دفة الموضوع ولكنها وجدت نفسها تخوض معركة لم تكن مستعدة لها

فقد اندفعت فهيمة, وعلا صوتها الحاد وهي تهز رأسها في ضيق قائلة:
- لا تتكلم في سيرته, إنه مجنون
- لا.. ليس مجنوناً

عبارة وجدت سلوى نفسها تقولها بصوت مرتفع.. تعجبت فهيمة وقالت ببطء مع احتفاظها بأسلوبها المتهكم:
- كيف عرفت يا ست سلوى, إن شاء الله؟

بركان من الغضب انفجر فجأة في صدر سلوى, فصاحت قائلة وهي تحاول أن تداري عينيها عن الشقيقين:
- إنه ليس مجنوناً, هذا ما أعرفه.. فقط هو رجل فقير ومسكين, وهذا هو العمل الذي يجيده لكسب الرزق.. وهو لم يجد وظيفة أفضل ليعمل بها

ضحكت فهيمة وقالت بصوت جاف:
- من جميع هذه الأعمال في الدنيا, لا يجد وظيفة واحدة أفضل ؟
احتدت سلوى وكذلك الأمر بالنسبة إلى فهيمة التي قالت بطريقة مستنكرة لا تخلو من استهزاء:
- ما حكايتك يا سلوى هانم؟ لا نعرف اسم أبيك , ولا نعرف حتى اسم والدتك, وهذه هي أول مرة نلعب فيها معك. ثم نجدك تدافعين عن الرجل الذي لا يتعامل معه أحد
- أنا أفهم جيدًا من الرجل الصالح, ومن الذي ليس صالحاً, هذا كل ما في الأمر

اختنق صوت سلوى حتى كادت أن تطفر الدموع من عينيها لكنها تتوقف وتمسح بدايات دمعتها الصغيرة, فتأخذ فهيمة يد أخيها الصغير, وتقول دون النظر إليها :

- لقد نسينا يا حمدان, لكن حذرنا أبانا من التكلم مع الغرباء

نظر حمدان إلى سلوى نظرة مليئة بالشفقة والحزن, في حين كانت فهيمة تسحبه من يده, فنادت عليهما سلوى لكن فهيمة تجاهلت نداءات الفتاة وزجرت حمدان حتى لا يرد عليها

انهار عالم سلوى فجأة فوجدت نفسها غارقة في البكاء الذي يمزق القلب..أخفت دموعها الساخنة عن نظرها كل الوجوه والصور التي تزخر بها حارة الشرف

لحظتها أقسمت بينها وبين نفسها بألا تلعب مع أحد في هذا الشارع مرةً ثانية


لحظتها انزوت تلك الفتاة الصغيرة وجرت أقدامها إلى منزلها الذي قررت أن يكون جزيرتها الوحيدة بعيداً عن محيط من البشر الذين اختاروا القسوة وانحازوا إلى الإساءة كأنها متعتهم المفضلة

Tuesday, January 2, 2007

مصر في حارة: 6


أم سعاد
" 6 "


اليوم يمرق بسرعة السهم , الساعة أصبحت كالدقيقة , الدقيقة أصبحت كاللحظة, واللحظة لا تنفع



سنية لا يسعفها الوقت ولا الصحة التي هدتها السنوات وغياب الابن حسين لتنتهي من أعمالها بسرعة السهم -مثلما يفعل اليوم- من طهي للطعام وتنظيف للمنزل وتلميع للأثاث المتواضع فتقرر أن تحضر خادمة. كانت أم سعاد أول من خطرت على ذهنها وأول من قررت إحضارها, فهي من أطيب نساء الحارة فضلاً عن مظاهر العافية البادية عليها مما يجعلها قادرة على القيام بأعباء تنظيف المنازل
تربي أم سعاد ثلاث بنات جميلات في سن الخامسة والتاسعة والحادية عشرة, شيماء وفاطمة وسعاد...أما الأم, فهي امرأة تقاوم مصاعب الفقر , بتسامحها مع الحياة ونبل قلبها, وطباعها الهادئة. تحتفظ ملامح وجهها بآثار التعب والشقاء ...وهي وإن كانت لا تهوى أعمال المنزل, فإنها تتحمل متاعب أداء هذه المهام الشاقة نيابةً عن الآخرين للحصول على المال الذي يراوغها فلا تحصل عليه في دروب الحياة بسهولة

لمست سنية اختلافاً كبيراً في المجهود الذي تبذله منذ أن استعانت بأم سعاد لتنظيف منزلها..فها هي أم سعاد تطهو وتنظف وتعد للست سنية القهوة السادة التي تحبها في أوقات معينة من اليوم, فتحتسيها, وتقول لها بلطف بالغ:

- سلمت يداك يا أم سعاد!
- الله يخليك يا ست سنية!
- وكيف حال بناتك؟

تضحك أم سعاد وتقول وهي تحني رأسها:
- بخير يا ست أم حسين, يسلمن عليك وعلى فهيمة وحمدان..زرت البارحة أختي دلال, فطمعت شيماء ابنتي في عروسة ابنتها سميرة آخر عنقود أختي. أخذت شيماء تبكي وتصرخ بشقاوة الأطفال قائلةً :"أريد عروسة مثل التي تلعب بها سميرة ابنة خالتي". لا أعرف أنا ماذا أفعل. هي طفلة عنيدة ونفسها في العروسة

رق قلب أم سعاد وطفرت من عينيها دمعتان، وهي تحدث نفسها عن كم المعاناة التي تمر بها أم سعاد وبناتها بسبب الفقر الذي يحاصرهم كجزيرة وسط محيط صاخب من المطالب المادية

لا تعرف سنية بم تجيب..تمر بينهما فترة صمت كأنها دهر.. ثم تقول في حنوٍ:
- ما شاء الله, ربنا يحميها لك, بناتك مثل الشربات

ما إن فرغت أم سعاد من عملها في المنزل, حتى شكرتها سنية.. وقبل أن تودعها، ضمتها إلى ذراعيها الطريتين, وقالت لها:
- اعلمي يا أم سعاد أنني لن أبخل عليك بأى شيء . اعتبري نفسك أختي.. هل تفهمينني؟
تهز أم سعاد رأسها في حياء بعد أن غمرتها سنية بهذا العطف الذي لامس قلبها

تمضي جمعة, فتأتي أم سعاد لتنظيف المنزل, لتجد في انتظارها مفاجأة أثلجت صدرها.. فقد قدمت لها سنية دمية صغيرة كانت تمتلكها روحية ابنتها المتوفاة في صغرها، وكانت الأم المكلومة تحتفظ بها على سبيل الذكرى في خزانة غرفتها

تكاد أم سعاد تطير من السعادة بعد أن تحقق حلم ابنتها شيماء فتطبع قبلة على جبهة سنية لكنها تعجز عن التعبير بالكلمات، فتبادرها سنية بالقول:
- لا تقولي شيئاً.. أنت في منزلة أختي.. قلت لك ذلك.. أعطي هذه العروسة الصغيرة لشيماء. عديني يا أم سعاد بأن تقولي لي إذا ما احتجت شيئاً.. لا تنسي.. نحن أختان

تلتمع عينا أم سعاد في شكرٍ وامتنان, ثم تنفجر باكيةً بحرارةٍ وتقول:

- الله يخليك يا أم حسين, لا أعرف ماذا أقول.. لا أعرف ماذا أفعل.. شكرًا يا غالية. ربنا يبارك لك في أبنائك ويعيد إليك حسين سالماً غانماً

تبتسم سنية, وتمسح دموع أم سعاد الغزيرة التي سالت من عينيها اللتين عرفتا أصنافاً من الشقاء.. دموع انهمرت بغزارة حتى إن بعضها وجد طريقه إلى خديها قبل أن يسقط على سجادة غرفة الجلوس بالمنزل

كم عرفت تلك السجادة ذات النقوش الشرقية القديمة من دموع في هذا المنزل.. وكانت شاهداً على أحزان سنية وأبنائها
لكنها كانت أيضاً شاهد عيان على لحظات فرح اختلسها أبطال عاشوا في حارة الشرف وسط دوامة الحياة التي لا تنتهي

لم تكن مجرد دمية تلك التي منحتها سنية لشيماء.. كانت قطعة من قلب وذكريات السيدة الحانية بعد وفاة ابنتها روحية.. لكنها وجدت في منحها لطفلة أخرى إحياء لذكرى الابنة الراحلة

كانت الدمية أكثر من مجرد لعبة.. كانت طوق نجاة لعائلة تبحث عن السعادة في عيني طفلة في الخامسة.. بل بدت الدمية حبل إنقاذ لأم سعاد بعد أن شعرت بلحظة انكسار وعجز عن تلبية مطالب ابنتها الصغرى

لكن الفرج يأتي أحياناً.. على شكل دمية