Friday, January 23, 2009

مصر في حارة: 18







بهيرة موسى

"18"


كانت المصادفة، المصادفة فقط هي التي جمعت بينه وبين بهيرة موسى -أخت ليلى- التي استقرت في مصر ولم تسافر مع باقي أفراد عائلتها

حدث ذلك حين خرج لشراء الحاجيات البسيطة له من السوق، بعد نحو شهرٍ من سفر ليلى. وما إن رأته بهيرة حتى ارتبك جسدها الصغير وارتعبت عيناها عندما لمحت حسين ينظر إليها في غضب وضيق. تكومت في لحظةٍ كأنها جنين، ثم أخذت تبحث بعينيها عن مخرج من هذا الموقف، قبل أن تتسارع خطاها لتتخلص من مواجهة لا تريدها مع حسين

غير أن حسين لم يدعها وشأنها بل تسارعت خطاه هو الآخر، ثم هتف حينما لحق بها:

- بهيرة، بهيرة.. أنا لا أصدق نفسي

- حسين!

- نعم، حسين. أريد أن أعرف إلى أين سافرت ليلى! قولي لي..أرجوك
- أنا لا أعلم، لا أعلم

- لا تعلمين؟ كيف هذا وأنت أختها وكاتمة أسرارها! لا بد أنك تعرفين كل شيء، أين هي؟ أرجوك أخبريني

نظرت إليه بهيرة نظرة شفقة صادقة، وكادت تطفر من عينيها الدموع، لكنها تمالكت نفسها ووضعت كلتا يديها على فمها، هامسة في ضعفٍ:

- لا أستطيع أن أقول، لا أستطيع

- وما الذي يمنعك؟ لقد أخذت ليلى ابني، لينهار عالمي فجأة. أتوسل إليك

-لا أستطيع. أرجوك، لا تحرجني، فهي أختي. أرجو أن تسامحني

دمعت عينا حسين وقال وصوته يكاد يختنق:

- هذا ظلم .. حرام عليك وعليها.. تخيلي نفسك في موقفي العصيب
ردت وهي تغالب دموعها:

- أنا أيضاً أتعذب. أشعر بوخز الضمير

تمتم حسين وكأنما يتحدث إلى نفسه:

- لِمَ؟

- لأنها تريد أن تحطم قلبك وأن تثأر لنفسها منك
- لكني لا أريد منها أي شيء سوى أولادي
كفكفت بهيرة الدموع التي تسيل على وجنتيها، وقالت وهي تصطنع القوة:

- آسفة يا حسين

بدا أن كل حبال الأمل التي يتعلق بها حسين تنتهي إلى يد بهيرة، فبادرها بلهجة أقرب إلى الاستعطاف:

- اسمعيني يا بهيرة، أنا متأكد أنك أنبل من ليلى ألف مرة. أرجوك، تخيلي لو أن قطعة منك ضاعت فجأة

شخصت بهيرة بعينيها إلى السماء حتى لا تنهار في نوبة بكاء، لكنها همست في تأثر وهي تشعر بغصةٍ في حلقها:

- أنا وعدتها يا حسين بألا أبوح لك بشيء في حال رأيتك يوماً ما. لقد وعدتها، ولا بد أن أفي بوعدي

- أستحلفك بالله. تأكدي أني لن أنسى صنيعك هذا وسألبي لك جميع طلباتك إن أنتِ أجبتني إلى هذا المطلب الإنساني

التمعت عينا بهيرة فجأة كأنهما عينا سمكة، وتحولت إلى نظرة صارمة وسط دموعها، قبل أن ترد عليه بالقول:

- أولاً، لا أريد أي طلبٍ منك. ثانياً، أريدك أن تعرف أني حتى لو قلت لك عن مكان ليلى، فلن تعرف مكان الطفلين

خفق قلب حسين بقوة، ثم انتفض صائحاً:

- ما الذي يعنيه هذا الكلام؟

- إنه يعني ببساطة أن الطفلين لا يعيشان الآن مع ليلى. لقد أودعتهما في ملجأ في المكان الذي سافرت إليه، وأنا لا أعرف مكان أو اسم هذا الملجأ، صدقني. قلت لك من البداية إنها تعتزم أن تحطم قلبك، وأنا آسفة - للمرة الثانية- لكل ما يحدث




شعر حسين بأن الحياة وهبته مفاتيحها، لكنه لم يجد أبوابا ليفتحها
غمغم وعيناه تسبحان في فضاءٍ تتدلى منه ملايين الأحلام المطفأة:

- لن ينفع أسفك ولن يغير من المأساة شيئاً

- أنت شاب رائعٌ وتستحق إنسانةً تمنحك الحب وتبادلك المودة. ليلى أختي، لكن عليك أن تتجاوز الأمر بالرغم من

إدراكي لصعوبته. فقط انظر إلى الأمام ولا تدع الأحزان تسيطر عليك. اسمعني جيداً، هذه الآلام الرهيبة التي تعيشها يجب أن تدعها تغادرك إلى غير رجعة


طفرت دمعة ساخنة من عينيّ حسين وسالت على وجنته، ثم نظر بعينين بهما قدرٌ كبير من الانكسار إلى بهيرة، قبل أن يتركها ويسير بخطى ضائعة قادته في النهاية إلى منزله في حي العجوزة

لم ينتبه كيف سار كل هذه المسافة الطويلة على قدميه، ولم يكن يسمع أبواق السيارات ولا نداء الباعة الجائلين

اختفت الصور وصمتت الأصوات كلها، بعد أن تزاحمت في ذهنه صورُ طفليه الغائبين عن عينيه، ثم حلت مكان الصورتين صورة ليلى: امرأة أنانية.. جشعة.. لا قلب لها.. ثم تحولت الصورة إلى بهيرة ودموعها تسيل على خديها

تداعت في ذهنه الصور وهو يسير في دروبٍ يغلفها ضبابٌ عميق، أما قلبه فلم يكن يملؤه إلا شعورٌ بالعجز ورغبة في الانتقام

3 comments:

Anonymous said...

حلو قوى الحوار بين الشخصيات عندك. حسيت أنهم فعلا بيتكلموا مع بعض كأنهم بشر من لحم ودم، مش مجرد شخصيات خيالة
برافو يا إيمان

فدوى مشرقى

Anonymous said...

Very good novel with a style
You will be a famous writer within few years

Alaa Amin

Eman Yasser said...

anonymous:
أشكرك كثيراً على ملاحظتك وعلى تقديرك للغة الحوار بين شخصيات القصة، وأشكرك على زيارة المدونة. أرجو أن تكون روايتي الصغيرة قد نالت إعجابك

Anonymous: (Alaa Amin)
Your encouraging premonition means a lot to me. Hope you keep visit my blog. Thank you