Sunday, September 9, 2007

مصر في حارة: 13



نجوى كريم


" 13 "


كانت سنية راقدة تحت دِثارها وجسدها يرتجف قليلاً بسبب البرد الذي أخذ يتسرب تدريجياً مع قدوم فصل الشتاء.. كانت عيناها معلقتين في فضاء الغرفة باتجاه السقف، حالمتين كعادتهما، في حين كان قلبها يحلق في دنيا بعيدة خالية من الأسى والتعب الذي تواجهه كل يوم، حتى سمعت طرقات على الباب، فنهضت بخطوات متثاقلة وهي تضع عليها عباءتها.

وما كادت تفتح الباب حتى ارتسمت ابتسامة على وجهها وخفق قلبها ..فنجوى كريم لا تزور منزلها إلا قليلاً.

كانت نجوى أكثر نساء الحارة تمتعاً بيسر الحال، وكانت غالباً ما تورد وجهها ووجنتيها البارزتين بالأصباغ والمساحيق وتلون شفتيها بأحمر الشفاه اللامع وتزين عينيها بالكحل. وكم كانت نساء الحارة ينتبهن إلى عشقها لارتداء الحلي الذي يطوق يديها السمينتين والسلسلة الذهبية ذات المصحف الكبير التي كانت تحيط برقبتها، وتعطي مؤشراً لا تخطئه العين على حالتها الميسورة.

وبالرغم من ثرائها فقد كانت عاشقة للحياة في حارة الشرف، مثلما عرف عنها كثيرون حرصها على مد يد العون للفقراء والمعوزين، واهتمامها بأن تكفل عدداً من اليتامى. بل إن البعض يحكي عن مساعداتها المادية لسرور الدمياطي قبل أن تتحسن أحواله وينال من رزق الله الواسع.

لكن هذا لم يكن ليجعل الناس ينسون عنها صفاتها المزعجة، فقد كانت أكثر النساء فضولاً ورغبة في استطلاع أخبار الناس من حولها حتى ولو كان ذلك يصيبهم بالضيق باعتباره من خصوصياتهم. وفي المقابل، كانت من عشاق جلسات النميمة لتبادل الأخبار والتفاصيل مع نساء الحارة حول كل ما يحدث خلف الأبواب المغلقة في منازل حارة الشرف.

ولم يكن ليفوتها مشهد حسين وهو يحمل بين يديه طفلته وينزل بها من عربة الحنطور قبل أن يصعد بها إلى منزله. قرضت نجوى أظفارها وضاقت عيناها وهي تفكر وتضرب أخماساً في أسداس، متسائلة حول هذا المشهد ومعنى وجود طفلة بين يدي حسين الذي لا تعرف عنه الحارة أنه تزوج أصلاً.

اشتعلت نار الفضول في صدرها، وهي من النيران التي لا تنطفيء بسهولة.

قررت نجوى أن تزور الست سنية وتسألها بنفسها.. وقد كان!

- كيف حالك يا أم حسين؟
- بخير و الحمد لله .. نورتِ البيت يا ست نجوى.

وبعدما استقبلت سنية صديقتها بحفاوة، جلستا لاحتساء فنجانين من القهوة المضبوطة، قالت نجوى دون مقدمات:

- رأيت ابننا حسين يحمل طفلة صغيرة ويصعد بها إلى هنا. صبية من تلك يا أم حسين؟
خفق قلب سنية بشدة وبدا عليها الارتباك، فها هي مطالبةٌ بأن تبوح لواحدة من أهل الحارة بتفاصيل عن زيجة حسين في الخارج وإنجابه طفلة، لكنها عادت لتقول لنفسها إن ابنها لم يرتكب في النهاية إثماً لا سمح الله. هو فقط قفز فوق تقاليد وأصول الزواج كما تعرفها عائلته وربما الحارة.

- البنت هي سارة، ابنة حسين. الولد تزوج امرأة أثناء دراسته في انجلترا .. بعلمنا طبعاً، و..
- ما شاء الله, ربنا يحفظها!
أرادت سنية أن تغير الموضوع وأن تصرف انتباه نجوى، فقالت لها:
- إن شاء الله.. شكراً على السؤال, وأنت كيف حال بناتك وأبنائك؟
- كل شيء بخير. تعرفين الحياة وهمومها وحكاياتها التي لا تتوقف، لكن جميعهم بخير.

وانتهى الحوار بسرعة على عكس ما توقعت سنية, التي ودعت ضيفتها الفضولية وهي تتنفس الصعداء.

كانت سنية تعلم أن نجوى ستتكفل في جلسات النميمة مع نساء الحارة بإذاعة ونشر الخبر عن زواج حسين، الأمر الذي كان ثقيلاًَ على قلبها، لأنها كانت تشعر بأن أسئلة وفضول نساء الحارة قد تسبب لها بعضاً من الحرج، خاصة في ظل تساؤلاتهن المزعجة عن الزوجة الجديدة وسر عدم عدم حضورها أو زيارتها منزل أهل زوجها حتى الآن، بالإضافة إلى تفاصيل الزواج نفسه وسبب ارتباط حسين من امرأة أجنبية بعيداً عن الوطن، وعدم ارتباطه بفتاة من الأقارب أو الحارة مثلاً.



وفي الحارات، يأكل الناس من خبز الأخبار والأسرار على مائدة الفضول.

ولدى عودة زوجها أبلغته سنية بأنها قد أخبرت نجوى عن موضوع زواج حسين, فلم يغضب بل قال لها:

- هذه السيدة فضولها لا نهاية له، وإن كان نبلها وكرمها يغفران لها هذه الصفة التي تزعج الناس.

ثم ابتسم لسنية وقال بلهجةٍ ساخرة:
- على أي حال، لا بأس من أن تتولى إذاعة نجوى كريم نشر الخبر.. ففي النهاية لم يكن هناك مفر من أن يعرف الناس أن حسين تزوج وأنك أيتها العجوز أصبحت جدة.


ولما رأت سنية أنه في حال من المزاج الرائق، بادلته المزاح قائلةً:

- عجوز؟ من فينا العجوز يا رجل..عندما تكبر ابنة حسين وتقول لك يا جدي ستعرف جيداً من فينا الذي كبر كثيراً في العمر.

4 comments:

Anonymous said...

أسلوبك جميل وفعلاً أنت موهوبة

مبسوطة جداً أنك كتبت هذه الحكاية وأنت في سن 12 أو 13 سنة.. أكيد سيكون لك مستقبل باهر

ننتظر باقى الرواية والأعمال الأخرى قريبا.. شدى حيلك

إيناس محمود

Anonymous said...

Great way of writing. I really liked it.
Sorry for not having an Arabic keyboard.

Keep on writing such stories, as it shows how talented you are.
All the best!

Samy Radwan

Anonymous said...

تملكين روح السخرية والمرح في أسلوبك

أعجبت بجمل وعبارات من عينة "إذاعة نجوى كريم" للإشارة إلى المرأة التي لا تكتم سراً
وكذلك توقفت عند تعليق سنية وهي تخاطب زوجها بالقول: "عجوز؟ من فينا العجوز يا رجل"
إنه المزاح التلقائي المتوقع بين زوجين تقدم بهما العمر لكن بينهما تلك الأحاسيس الجميلة

بالتوفيق يا إيمان

د. وليد السيد

Eman Yasser said...

Anonymous ( إيناس محمود)
لاحظت إنها المرة الأولى التى تعلقى فيها فأرجو أن تستمعى بقراءة الرواية وتقدرى أنها التجربة الأولى لى فى الكتابة وبإذن الله ستشهدين المزيد من الروايات الأنضج ..
وشكرا

Anonymous:
Never mind about not having an arabic keyboard, it matters much more to me when i receive your comments and advices, hope you keep on visiting my blog ..
And thanks once again

Anonymous:
إن تلك العبارات التى أعجبتك ربما قد أعجبتك لأنها من واقع الحياة، فواقع الحياة ملىء بالمفاجات ...
أرجو أن تتابع متابعتك للقصة وستعجبك باقى الفصول إن شاء الله