Tuesday, January 2, 2007

مصر في حارة: 6


أم سعاد
" 6 "


اليوم يمرق بسرعة السهم , الساعة أصبحت كالدقيقة , الدقيقة أصبحت كاللحظة, واللحظة لا تنفع



سنية لا يسعفها الوقت ولا الصحة التي هدتها السنوات وغياب الابن حسين لتنتهي من أعمالها بسرعة السهم -مثلما يفعل اليوم- من طهي للطعام وتنظيف للمنزل وتلميع للأثاث المتواضع فتقرر أن تحضر خادمة. كانت أم سعاد أول من خطرت على ذهنها وأول من قررت إحضارها, فهي من أطيب نساء الحارة فضلاً عن مظاهر العافية البادية عليها مما يجعلها قادرة على القيام بأعباء تنظيف المنازل
تربي أم سعاد ثلاث بنات جميلات في سن الخامسة والتاسعة والحادية عشرة, شيماء وفاطمة وسعاد...أما الأم, فهي امرأة تقاوم مصاعب الفقر , بتسامحها مع الحياة ونبل قلبها, وطباعها الهادئة. تحتفظ ملامح وجهها بآثار التعب والشقاء ...وهي وإن كانت لا تهوى أعمال المنزل, فإنها تتحمل متاعب أداء هذه المهام الشاقة نيابةً عن الآخرين للحصول على المال الذي يراوغها فلا تحصل عليه في دروب الحياة بسهولة

لمست سنية اختلافاً كبيراً في المجهود الذي تبذله منذ أن استعانت بأم سعاد لتنظيف منزلها..فها هي أم سعاد تطهو وتنظف وتعد للست سنية القهوة السادة التي تحبها في أوقات معينة من اليوم, فتحتسيها, وتقول لها بلطف بالغ:

- سلمت يداك يا أم سعاد!
- الله يخليك يا ست سنية!
- وكيف حال بناتك؟

تضحك أم سعاد وتقول وهي تحني رأسها:
- بخير يا ست أم حسين, يسلمن عليك وعلى فهيمة وحمدان..زرت البارحة أختي دلال, فطمعت شيماء ابنتي في عروسة ابنتها سميرة آخر عنقود أختي. أخذت شيماء تبكي وتصرخ بشقاوة الأطفال قائلةً :"أريد عروسة مثل التي تلعب بها سميرة ابنة خالتي". لا أعرف أنا ماذا أفعل. هي طفلة عنيدة ونفسها في العروسة

رق قلب أم سعاد وطفرت من عينيها دمعتان، وهي تحدث نفسها عن كم المعاناة التي تمر بها أم سعاد وبناتها بسبب الفقر الذي يحاصرهم كجزيرة وسط محيط صاخب من المطالب المادية

لا تعرف سنية بم تجيب..تمر بينهما فترة صمت كأنها دهر.. ثم تقول في حنوٍ:
- ما شاء الله, ربنا يحميها لك, بناتك مثل الشربات

ما إن فرغت أم سعاد من عملها في المنزل, حتى شكرتها سنية.. وقبل أن تودعها، ضمتها إلى ذراعيها الطريتين, وقالت لها:
- اعلمي يا أم سعاد أنني لن أبخل عليك بأى شيء . اعتبري نفسك أختي.. هل تفهمينني؟
تهز أم سعاد رأسها في حياء بعد أن غمرتها سنية بهذا العطف الذي لامس قلبها

تمضي جمعة, فتأتي أم سعاد لتنظيف المنزل, لتجد في انتظارها مفاجأة أثلجت صدرها.. فقد قدمت لها سنية دمية صغيرة كانت تمتلكها روحية ابنتها المتوفاة في صغرها، وكانت الأم المكلومة تحتفظ بها على سبيل الذكرى في خزانة غرفتها

تكاد أم سعاد تطير من السعادة بعد أن تحقق حلم ابنتها شيماء فتطبع قبلة على جبهة سنية لكنها تعجز عن التعبير بالكلمات، فتبادرها سنية بالقول:
- لا تقولي شيئاً.. أنت في منزلة أختي.. قلت لك ذلك.. أعطي هذه العروسة الصغيرة لشيماء. عديني يا أم سعاد بأن تقولي لي إذا ما احتجت شيئاً.. لا تنسي.. نحن أختان

تلتمع عينا أم سعاد في شكرٍ وامتنان, ثم تنفجر باكيةً بحرارةٍ وتقول:

- الله يخليك يا أم حسين, لا أعرف ماذا أقول.. لا أعرف ماذا أفعل.. شكرًا يا غالية. ربنا يبارك لك في أبنائك ويعيد إليك حسين سالماً غانماً

تبتسم سنية, وتمسح دموع أم سعاد الغزيرة التي سالت من عينيها اللتين عرفتا أصنافاً من الشقاء.. دموع انهمرت بغزارة حتى إن بعضها وجد طريقه إلى خديها قبل أن يسقط على سجادة غرفة الجلوس بالمنزل

كم عرفت تلك السجادة ذات النقوش الشرقية القديمة من دموع في هذا المنزل.. وكانت شاهداً على أحزان سنية وأبنائها
لكنها كانت أيضاً شاهد عيان على لحظات فرح اختلسها أبطال عاشوا في حارة الشرف وسط دوامة الحياة التي لا تنتهي

لم تكن مجرد دمية تلك التي منحتها سنية لشيماء.. كانت قطعة من قلب وذكريات السيدة الحانية بعد وفاة ابنتها روحية.. لكنها وجدت في منحها لطفلة أخرى إحياء لذكرى الابنة الراحلة

كانت الدمية أكثر من مجرد لعبة.. كانت طوق نجاة لعائلة تبحث عن السعادة في عيني طفلة في الخامسة.. بل بدت الدمية حبل إنقاذ لأم سعاد بعد أن شعرت بلحظة انكسار وعجز عن تلبية مطالب ابنتها الصغرى

لكن الفرج يأتي أحياناً.. على شكل دمية

3 comments:

tota said...

الجميلة ايمان
يالا رقتك ايتها الصغيرة

يأتى الفرج فى اشياء فعلا بسيطة جدا قد لا تمثل للبعض شيئا وقد تمثل اقصى الامانى
قد تمثل ابتسامة طفلة صغيرة لسعادتها بدمية اكبر المعانى لقلبها ولقلب امها

الفكرة بقدر بساطتها الا انها من الحياه ولكن فى حدود حيز تجربتك وحياتك واظن مع مرور الايام سوف يتسع بالتجارب

ما زال يطغى على قصتك جو المدينة الفاضلة الخالية من الاشرار وكأنى بك تنشدين ذلك فى عالم حارتك
لا مكان للاشرار حتى من يبدو شريرا فهو عن جهل

تحياتى

Eman Yasser said...

Tota:
شكراً لرسالتك التى سعدت جداً عندما قرأتها .. هى فعلاً تلك القصة قريبة من قصة شاهدتها بعينى و قد فكرت أول حاجة أن أضعها فى قصص حارتى، و زى ما قلتى إن أشياء صغيرة فعلاً يمكنها أن تمثل أضخم الأشياء بالنسبة لناس أخرين، و مع التجربة (أيضاً مثلما قلتى) سأجد مواقف أحلى و أعمق و لها معنى، و ربما أضعها فى قصة من قصصى

Eman Yasser said...

انا الذي يمشي في الظلال :
شكراً على متابعتك و شكراً لأنك أعلمتنى إنك تتابعنى ..
أرجو أن تنال باقى الفصول إعجابك و تمدنى بالملاحظات