Friday, December 8, 2006

مصر في حارة: 4



مهجة عبد الودود
" 4 "




عبد الودود الأسواني أرمل في منتصف الأربعينيات. صعيدي وجدود جدوده من قلب الصعيد..أسوان, اشتهر بسذاجة تمتزج بحدة في الطباع.. ثمرة زواجه الوحيدة من"عديلة" الشامية -زوجته المتوفاة- هي صبية اسمها مهجة

كم شهدت "حارة الشرف" لعب مهجة فوق أسطح المباني العتيقة وسط الصبيان و البنات وبجوار أقنان الدجاج وبيوت البط والأرانب! كم لمح أبناء الحارة رزانتها وهدوءها ورقة ملامحها المصرية الشامية.. حيث اكتسبت بشرتها الداكنة ونبرتها الساذجة من أبيها عبد الودود أفندي, في حين وهبتها والدتها عديلة عينيها الشاميتين وقوامها الملفوف وشعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر من الأحلام

ومهجة هي روح تلك الحارة بشقاوتها وبراءتها.. تلعب وتركض وتجلجل مثل بقية الأطفال, لم يكن هناك من يكرهها أبداً في حين أحبها الجميع. طفلة .. نعم طفلة يغلفها الذوق ومسحة من الحياء. لكن رياح الصبا هبت لتقتلع منها تلك الشقاوة ومعها طفولتها البريئة .. فقد هدها مرض مفاجيء, أخذ ينال من صحتها وعافيتها.. فإذا بها تقع من طولها فجأة.. تتعب ويسري في أنحاء جسدها إرهاق غامض مصحوب بارتفاع في درجة الحرارة, ثم بعد لحظة تنقلب حرارتها إلى برودة تلسعها وتدفعها إلى البكاء


لاحظ من حولها أنها تسمع أصوات الأشخاص لكنها لا تسمع ما يقال منهم. يتمالك والدها نفسه فيحثها على الصبر في مواجهة المرض الغامض, ويقول لرضوان أفندي في قهوة الحارة:
- إنها لا تنطق جملة على بعضها الآن. لا أعرف ماذا أفعل يا أبا حسين
فينصحه رضوان وهو يتصنع الحكمة الزائفة, قائلاً :
- إذا كانت في هذه الحالة الخطيرة, فيجب أن تذهب بها إلى قصر العيني. يجب أن تعالج ابنتك المسكينة إلا إذا كانت تتدلل عليك
يضج عرق عبد الودود الصعيدي, متمتماً:
- فتاة مفعوصة تذهب إلى قصر العيني؟ ربما هي تتدلل لأنها وحيدة, لكننى لن أسمح بأن تذهب إلى قصر العيني, وستتحسن حالتها بإذن الله. والله لقد أخذت المفعوصة هذا اللين وذلك الدلال من والدتها.. الله يرحمها و يغفر لها

ويمر أسبوع تلو الآخر, وصحة مهجة لا تتحسن بل تزداد سوءاً. لم تعد تقوى على اللعب مع فهيمة وحمدان فى تلك الأسابيع التي أصبحت بالنسبة لها مليئة بالملل والفراغ

كانت مهجة تقف في منتصف سطح من أسطح الحارة لتؤدي دور المدرسة التي تحذر تلاميذها من عدم الصمت وتتوعدهم وهي تلوح برقة بعصا صغيرة..كانت تلعب وتنشر البهجة في أي مكان تذهب إليه.. كانت, وكانت, وكانت

عرف الناس عنها تلك الرقة والعاطفة الجياشة.. فكان إذا مرض أي من أطفال الحارة, ترجو والدها وتلح عليه حتى يزور والد الطفل المريض ويطمئن عليه أو عليها. ولكن عندما مرضت هي, منع الأهالي أبناءهم وبناتهم من زيارتها, كما منعوا أنفسهم من زيارة منزل أسرتها خشية انتقال "عدوى" المرض الغامض منها إليهم

كان منظرها مثيراً للشفقة وهي مستلقية على السرير وحدها في حين اكتسى وجهها الصغير بلون أصفر .. وخانتها ساقاها الواهنتان فلم تعد قادرة على الوقوف على قدميها.. كلما حاولت سقطت, وكانت كثيرة السقوط

تبكي بغزارة وفي ضعف, لكن أحداً لم يكن يستمع إلى شكواها وأنينها.. فالأب ركب رأسه وصمم على موقفه السلبي, تاركاً ابنته وسط غابة من الألم وهو يظن أنها مرحلة دلال أو أن مرضها عابر سرعان ما ستشفى منه في غضون أيام أو حتى أسابيع قلائل, ويصمم على أنها لن تذهب إلى مستشفى قصر العيني مشدداً على أنه يجب مواجهة هذه الميوعة بشيء من الحزم

و ذات يوم عندما عاد عبد الودود من العمل, ليجدها مطروحة على ظهرها على أرض الشقة الخالية من السجاد, تئن وتصرخ بصوت ضعيف. فوجيء الأب و سرت في جسده قشعريرة الخوف على ابنته لأول مرة, فهرول إليها, وقال بلهجته الأسوانية:
- ماذا جرى يا مهجة ؟ انطقي!
دمعت عيناها, وقالت بصوت أقرب إلى الهمس:
- أشعر بأنني سأموت يا أبي, أنا خائفة ..سأموت, ساعدني الله يخليك

تتساقط حبات العرق من جبهة عبد الودود خوفا وحزناً على ابنته الوحيدة .. فيمسك بيدها ويضغط عليها قائلاً:
- سأحضر بعض نساء الحارة للمساعدة. النساء سيعرفن بالتأكيد سبب تعبك وأنا واثق أنهن سيقدمن لك شيئاً يعالج وجعك..تماسكي وشدي حيلك

يصيح عبد الودود على النساء وأزواجهن الجدعان في منتصف الحارة فيلبي نداءه كثيرون ومن بينهم الست سنية, التي تأتي حاملة حساءً من شوربة الدجاج, كما حمل البعض مشروبات ساخنة وجاء فريق آخر ببعض الأعشاب الطبيعية والوصفات الشعبية, وأخذت إحدى نساء الحارة تتحسس جبهة مهجة, وسرعان ما صرخت في عبد الودود بفزع:
- ابنتك ساخنة مثل النار. يجب أن تذهب بها إلى قصر العيني حالاً ..مهجة ستضيع منك.. الحقها
لكن الرجل يهز رأسه ما بين الرفض والتردد ويقول لها:
- لا يمكن يا أم سامح , لا تضخموا الموضوع إلى هذا الحد !
- لا تضخيم ولا حاجة.. تحسس جبهتها وستعرف أنني لا أبالغ
يداري عبد الودود وجهه الأسمر, وفجأة يقول للناس من حوله:
- شكراً يا جماعة.. ربنا يحفظكم. والله قمتم بالواجب وزيادة
يودع عبد الودود من جاءوا إليه للمساعدة, ويشكرهم بحرارة, ثم يقول لابنته بعد رحيلهم:
- شوفي.. أنا عارف إنك تمارسين الدلع على والدك.. لكن كفاك دلعاً, إنه مجرد مرض بسيط وستشفين منه إن شاء الله قريباً
تنظر إليه مهجة نظرة ملؤها العتاب, ثم تغلق عينيها من شدة التعب والألم، فتنام من دون رد
تمر جمعتان غير أن حالة مهجة تظل على ما هي عليه من الضعف. وفي ظهيرة أول يوم في الجمعة الثالثة, يعود عبد الودود من صلاة الجمعة بجلبابه الأبيض فيلقي السلام على ابنته ويتوقع منها رد السلام, لكن يجدها مطروحة على فراشها دون حركة .. جامدة كتمثالٍ بلا روح
نظرة عينيها الحزينة تغيب وسط أرضية الحجرة..وقد اكتست شفتاها الرقيقتان بلون أبيض سحابي, وامتد شعرها الكثيف كموج البحر, في حين كان العرق يحاصر جبهتها العالية. لم تكن الفتاة تبتسم كعادتها ولا حتى تتنفس..وغاب أي انفعال عن قسمات وجهها

ينظر إليها عبد الودود نظرة يمتزج فيها الإحساس بالذنب مع الشعور بالشفقة, يستلقي بجانبها, وقلبه يكاد ينفطر بسبب إحساسه بالتعاسة والألم للحالة التي وصلت إليها ابنته
ثم تلدغه الحقيقة كأنها عقرب.. لقد ماتت زهرته الصغيرة

أمسك يديها الصغيرتين الباردتين وأخذ يقبلهما هامساً لنفسه :
- قضيت على ابنتي ... قضيت على ابنتي
وما هي إلا لحظات حتى انتشر الخبر المؤلم في الحارة. بكى الأطفال بغزارة, وحزن أهالي الحارة من مختلف الأعمار على رحيل تلك الصبية الرقيقة المحبوبة التي عشقها كل من رآها لخفة ظلها وبراءتها .. وتحسرت النساء على موت مهجة ابنة الخامسة عشرة وهن يقلن في المجالس الخاصة بهن: كانت كالبدر .. كنت أتمناها عروساً لابني..كان ينتظرها مستقبل مشرق..يا لسوء حظها, و يا لسوء حظ أبيها
لم يعرف أحد فى تلك الفترة أن ما أصيبت به كانت الملاريا

عاش أبوها بعد رحيلها عن الحياة وحيداً دون زوجةٍ أو ذريةٍ تؤنس وحدته.. فكان يتجنب الجلوس مع أصدقائه القدامى في المقاهي أو العمل ..وبعد أن كان الصديق الوحيد لرضوان أفندي المنياوي.. دفع الأخير ثمن عزلة صديقه المقرب.. فأصبح هو الآخر وحيداً يجالس خياله الضخم في أحد أركان مقهى الحارة

6 comments:

هي said...

ايمان
احببت كثيرا:
"شعرها الفاحم ينسدل كأنه ستائر من احلام
"
و
"يجالس خياله الضخم"
تأثرت كثيرا بمرض الفتاة و لم افهم سذاجة الاب و استهتاره و كيف انه اكتفى بتانيب الضمير
ثم يا عزيزتي ماذا حل بطاهر؟؟ ام انك تمارسين فن التشويق

Eman Yasser said...

Rat :
شكراً على رسالتك الحلوة (أنا فعلاً بفرح عندما أرى رسائلك )
إن سذاجة الأب موجودة خصوصاً بين الصعايدة و الفلاحين، خصوصاً مع البنات حتى إذا إشتد مرضها، و لا يشعرون بالذنب إلا عندما يتأخر الوقت على الإكتشاف
أما طاهر فإنه سيظهر بعد بعض الفصول حيث إنى أكتب عن القصة الأشخاص فى الحارة الأساسية ثم بعد بضع فصول أكمل مصيرهم
و شكراً على متابعتك مرة ثانية

tota said...

ايمان
تتبعت هذا الجزء ونهايته المحزنة لموت الفتاه والذى كان واضحا انه سوف يحدث من فرط عناد الاب المبالغ فيه

بعض المصطلحات كانت دقيقة فاستخدمتى الاسم الصحيح قصر العينى وليس كما اعتدنا ان نقول القصر العينى

بعض الاخطاء الطفيفة وتداخل بعض الكلمات يحتاج مراجعة لكن ليس بالاهمية
فقط للتمتع بالنص كامل بدون اى شائبة

الجو الحزين المخيم على المكان كان محسوس فى الوصف

غاب قليلا الارتباط عن باقى افراد اهل الحارة فى الفصول السابقة
ها هذا متعمد ان نعيش قصص كل واحد فى جو مختلف ؟

اعتبر وصفك الدقيق والتفصيلى لكل موقف هو تعمق فيه حتى حبات العرق ولون البشرة والانين والهمسات كلها تصف تفصيليلا فتشعر القارئ انه فى داخل اطار الصورة

تحياتى ومنتظرة باقى الفصول

Eman Yasser said...

Tota :
شكراً جداً لملاحظاتك و متابعتك، و لأنك ترسلى لى كلما أنزلت فصلاً .. أنا كتبت فعلاً كلمة قصر العينى أى الكلمة الصحيحة و كنت حرصة على ذلك، و لم أكتب القصر العينى، إنما شكراً لإعطائى الملاحظات .. أما عن غياب باقى أفراد القصة قليلاً فأنا أحكى قصص كل من فى الحارة أو أشهرهم و ما علاقتهم بين عائلة المنياوى، ثم أعود و أذكر دورهم ثانياً ..
أرجو أن تنال باقى الفصول إعجابك

نعناعة said...

انا كمان زى رات عجبنى تعبير يجالس خياله الضخم و شعرها الفاحم الذي ينسدل كأنه ستائر من الأحلام

وأنتظر الفصل الجديد :) وانتظر اكثر اثر الحادث على عبد الودود في القصول القادمة

شروق

Eman Yasser said...

شروق
شكراً جداص لرسالتك و ملاحظتك و إهتمامك، أرجو أن تتابعى باقى الفصول معى أيضاً. ما حدث لعبد الودود الأسوانى سنعرفة فى آخر فصل، كما سنعرف ما حدث لعديد غيره فقط فى آخر فصل لإحداث التشويق
و أرجو أن تنال باقى الفصول إعجابك