Thursday, January 24, 2008

مصر في حارة: 15





جريمة قتل


" 15 "


لكل نهار عنوان

وعنوان ذلك النهار كان تلك النسمة المنعشة التي هبت ولامست الخدود والجباه، لتمنح أهالي الحارة والمارة في تلك المنطقة لحظاتٍ نادرة من الراحة والطمأنينة
بدا كل شخص على حاله. الست سعدية تشتري لوازم قططها والحلوى والطعام. ناجي مقار يغني على الأرصفة بصوته الجميل الذي يملؤه الشجن. نجوى كريم تشتري هدايا للفقراء والمحتاجين من الأسر المتعففة, حسين يزور مع زوجته عائلة رضوان أفندي وزوجته سنية
لكن شخصية واحدة اختفت عن الأنظار كأنها فص ملح وذاب: الراقصة هنومة نصار
فقد انقطعت أخبارها ولم يعد أحد يراها وهي تخرج في أول المساء ثم تعود في وقتٍ متأخر أو مع ساعات الصباح الأولى
تبخرت هنومة، الأمر الذي أثار فضول وتساؤلات البعض
وفي يوم الجمعة, فتحت فهيمة باب المنزل لحمدان الذي قال بحماس ٍ طفولي مشوب بالخوف :
- الشرطة موجودة تحت العمارة, ويقول الجميع إن الست هنومة قُتلت
خرجت سنية من المطبخ وهي تشمر عن ساقيها وقالت وهي تمسك في يديها بإحدى حبات الطماطم التي كانت تجهزها لطبق السلطة ضمن طعام الغداء :
- قتلوها؟
بعد لحظة صمت، أردفت سنية قائلة: لا حول ولا قوة إلا بالله. هل عرفوا من القاتل؟
هز حمدان رأسه بالنفي, ثم قال بأسف:
- يقول شيخ المسجد عمر إنه رآها لحظة الجريمة, عند آذان الفجر, وهو من أبلغ عن الحادث, ولكنهم لا يعرفون من القاتل حتى الآن, لأن الشيخ رآه من ظهره عبر الزجاج الملون للنافذة ملونة, فكان من الصعب عليه أن يحدد ملامحه ويكتشف هويته
أطل الأسى من عيني سنية, وزفرت زفرة حارة قبل أن تقول بصوتٍ خفيض:
- ربنا يغفر لها و ينتقم ممن قتلها
ران الصمت على منزل عائلة رضوان..وخيمت أجواء من الحزن على أفرادها.. ولكن عندما عاد رضوان أفندي من العمل تسابق الجميع لإبلاغه بما جرى في غيابه، لتدور الحوارات والتخمينات بينه وبين باقي أفراد العائلة حول حكاية جريمة قتل هنومة نصار

وفي الحارة تتغذى النميمة على الفراغ القاتل، في محاولةٍ يائسة لكسر أجواء الرتابة والملل
وهكذا أصبحت جريمة قتل هنومة نصار حديث الجميع في تلك الحارة الوادعة.. حتى حسين انشغل في لقائه منتصف اليوم مع صديقيه طاهر ومحمود بموضوع الراقصة التي انتهت حياتها نهاية مأساوية يلفها الغموض
كانت بورصة التخمينات على أشدها بشأن حقيقة ما جرى لتلك المرأة، حين قال طاهر :

- أتوقع أن تكون قد انتحرت, والله أعلم
ضحك محمود, وقال بسخريته المعتادة :
- انتحرت؟ لا يا ذكي , لأنهم وجدوها مذبوحة بطعنة سكين.. عليك ألا تنسى أن شيخ المسجد رأى شخصاً ما يقتلها! هذا استنتاج يثبت تواضع ذكائك وضمورك العقلي أيها الخائب
لوح طاهر بيده, وبدا متضايقاً من سخرية صديقه بقدر ما شعر بالأسف لسقوط الفرضية التي وضعها وظن أنها تقدم حلاً للجريمة الغامضة
لكنه سرعان ما حاول الدفاع عن نفسه بالقول:
ربما كان الشيخ قد تخيل ما رآه.. إنه شيخ كبير في السن، والأكيد أنه فقد حدة الإبصار وقوة التركيز منذ زمن بعيد
جاءت سنية وفي يدها أكواب الشاي التي تهتز على الصينية حتى يكاد الشاي الذي تتصاعد منه الأبخرة يلامس الحافة، كأنه امرأةٌ تتدلل في غنج
شاركتهم سنية الحوار فقالت:
- المهم أن يغفر لها ربنا .. أستغفر الله
استمر الحوار طويلاً, تشعب في دروب مهنة الراقصة وعلاقاتها وعودتها إلى المنزل متأخراً، ودخل في متاهةٍ من التفسيرات والتأويلات، وتكررت كلمة "ربما" طوال النقاش
فجأة, سمع الجميع طرقات قوية ومتواصلة على الباب. جفلت الست سنية, وسرت في جسدها رعدة قبل أن تخاطب زوجها بصوت مهتز وأنفاس متقطعة :
- لابد أنهم المباحث .. افتح أنت الباب!
ابتسم رضوان وأشار لها بيده مطمئناً، ثم اتجه إلى الباب. وما إن فتحه حتى عقدت الدهشة لسانه، إذ وجد عند الباب أربعةً من رجال الشرطة يتقدمهم ضابط برتبة مقدم، لم يضيع وقته طويلاً، فأخذ يطرح أسئلة ويحقق بجفاء مع رضوان وزوجته التي كانت ترد بصعوبةٍ بالغة وأنفاسٍ متقطعة على تساؤلات ضابط التحقيق، وهي تحاول تمالك نفسها حتى لا تطفر الدموع من عينيها

وسرعان ما سأل الضابط عن مدى علم عائلة رضوان بأن هنومة كان لديها ابن ٌ يعيش في الإسكندرية، فأجابت سنية بأنها علمت بالأمر من هنومة وأن اسمه عادل. سجل مقدم الشرطة بعض الملاحظات والمعلومات التي استقاها من عائلة رضوان، وعدَّل قبعته الرسمية، قبل أن يستأذن في الانصراف ويأمر من معه بأن يلحقوا به. وفور خروجه أسندت سنية يدها اليمنى على أقرب مقعد في الصالون ذي اللون المذهب وأخذت تردد: الحمد لله.. الحمد لله
أما ابنتها فهيمة، فقد وقفت عند باب غرفتها وهي تضع يدها على صدرها، كأن عبئاً ثقيلاً انزاح عن صدرها

في ظهيرة اليوم التالي, كانت سعدية تتبادل أطراف الحديث مع سنية عبر الشرفة الصغيرة. دار الحديث حول هنومة، فلا شيء غيرها يشغل أذهان أهل الحارة. قالت سعدية:
- لا أعرف شيئاً عن الست هنومة, حتى إنني لم أكن أعرف أن هناك راقصة أصلاً في الحارة
ضحكت سنية ضحكةً قصيرة وهي تحتسي قهوتها، وتقول لنفسها كم هي كاذبة هذه الجارة. ثم قالت بهدوء:
- الحقيقة, زرت منزلها من قبل, وتكلمت معها وعرفت أن لديها ابناً من زواجها الأخير وأنه يقيم مع أمها في الإسكندرية. أثاث شقتها يدل على أن حالتها المادية ميسورة وبدت لي مرتاحة البال, لكنها لم تذكر أن لديها أعداء
- عجائب يا دنيا عجائب
- لم أكن أتوقع أن تحدث جريمة في الحارة .. جريمة!
- بعض الأشقياء في ليل الحارة يحملون المطاوي والسكاكين, وجرائم السرقة والسطو تقع بين الحين والآخر. لم تتعجبين ؟
- لا أعلم .. لكنها جريمة قتل يا سعدية!
- قلت لك, عجائب يا دنيا
ضحكت سنية على كلام سعدية، وواصلا الحوار الذي لا نهاية له

مضت شهور على هذا الحوار الذي يتساءل عن الضحية..والقاتل
وفي أحد أيام الخريف المعتدلة زار حسين صديقه طاهر في المنزل, ففتح له الأخير الباب وقال بحزن:
- مساء الخير يا حسين, تفضل
- مساء النور, ما بك؟
صمت طاهر قليلاً, ثم قال:
- سيسافر مصطفى اليوم إلى قنا, ولن يرجع القاهرة مرة ثانية
قال حسين كأنه يعاتب صديقه:
- مازلتُ موجوداً ..أنا ومحمود -
- محمود ؟ أنا ومصطفى لا نعرف مكان محمود منذ ثلاثة أسابيع, وأخشى أن يكون قد حدث له شيء, أو حتى وقع له مكروه..لا قدر الله
خفق قلب حسين, وتسرب إليه شعور بالقلق. اقترح على صديقه أن يمضيا سحابة النهار في البحث عن محمود، ربما يمكنهما الاطمئنان عليه ومعرفة سر اختفائه المفاجيء، فوافق. غير أن بحثهما كان بلا طائل, مع أنهما فتشا عنه في كل مكان وسأل عنه لدى أصدقاء مشتركين، وتفقدا عدداً من المستشفيات وبعض أقسام الشرطة

أخذ الإرهاق من طاهر كل مأخذ, وبدأ يشكو لحسين, ويعبر له عن ضيقه, لأنهما لم يعرفا سبب غياب صديقهما

وبعد خمسة أيام, كان الجميع على موعد مع معرفة الحقيقة المُرة .. معرفة قاتل هنومة نصار
صعق كثيرون حين علموا بهوية القاتل.. ربما لأنه كان آخر من يتوقعون أن يقف وراء تلك الجريمة المروعة

2 comments:

Anonymous said...

ننتظر باقي القصة يا إيمان. أنا بحب أسلوبك جدا وما شاء الله عليك

Eman Yasser said...

كلامك يفرحني وأنا متأكدة من أن قراءتك لكتابتي شيء مهم لأن أي إنسان يكتب يعتز برأي من يقرأ له

أتمنى أن أنشر بعد هذه المحاولة الأدبية رواية أفضل