Saturday, March 10, 2007

مصر في حارة: 9



هنومة نصار
" 9 "



مقبولة الوجه..شعرها البني تختلط به خصلات مصبوغة باللون الأشقر.. ملفوفة القوام مع ميل واضح إلى الامتلاء لم تكن الملاءة السوداء قادرة على إخفاء انحناءاته الأنثوية..ابتسامتها الواسعة تكاد تلغي باقي تفاصيل المساحة بين أذنيها..صوتها العالي طاغيةٌ يسود المكان، وضحكتها المجلجلة تستمتع بالصخب، في حين تطلق نظراتها الجريئة سهامها التي لا تخطيء الهدف. ضاق جسدها المكتنز بثوبها الأحمر الذي تزينه رسومات كبيرة للورد والفراشات الملونة

أطلت برأسها من حنطور كبير, ثم تحركت ببطء خارجة منه لتلمس أرض الحارة.. أخذ كل من فهيمة وحمدان يتابعان في ذهول تلك الوافدة الجديدة على الحارة. نظرات التقطتها السيدة التي تجاوزت سن الثلاثين


اقتربت من فهيمة حتى غطت ظلالها وجه الفتاة، ثم وضعت يدها تحت ذقنها، قائلةً بأسلوب متوددٍ:


- ما شاء الله، الله أكبر. كم أنت جميلة, ما اسمك يا شاطرة؟

لم تبتسم فهيمة التي تضايقت من الروائح العطرية النفاذة التي حاصرتها فجأة، بل أجابت بصوتٍ يفتقد حرارة الترحاب:
- اسمي فهيمة, ومن أنتِ؟
- أنا ساكنة جديدة في الحارة..
اسمي هنومة

وبينما كان الحديث دائراً بين هنومة وفهيمة, لاحظ حمدان أن خطى تلك السيدة جهة سيرها تتجه إلى المبنى القديم الذي يعيش فيه مع عائلته, فأشار بسبابته إلى المبنى وقال متسائلاً:

- أنت قادمة إلى هذه العمارة يا أبلة؟

أجابت هنومة بابتسامتها العريضة حتى بانت الغمازتان اللتان تزيدان من ملاحة وجهها:
- نعم يا حبيبي.. سأسكن في الدور الأول

هتف الصبى في حماس:

- أتعرفين؟ أنا والعائلة نعيش من زمان في تلك العمارة
- عظيم، ستكون بيننا إذاً علاقة محبة ومودة

ساعدها كل من حمدان وفهيمة في حمل حقائبها الثقيلة وأغراضها الكثيرة, ثم ذهبا إلى بيتهما وأخبرا أمهما عن تلك الجارة الجديدة. وبطيبتها المعتادة تساءلت الأم في فضولٍ قائلة:
- جارة جديدة؟ سأزورها غداً إن شاء الله ربما تكون في حاجة للمساعدة في ترتيب بيتها. أما اليوم فسأتركها لترتاح قليلاً

ومع إطلالة الصباح تقف سنية على باب شقة الساكنة الجديدة وتطرق عليه لتفتح لها هنومة مرتديةً قميص نوم لونه أصفر باهت, في حين تحيط رقبتها المكتنزة بسلاسل ذهبية ثمينة ويتدلى من أذنيها قرطان ذهبيان دائريان كأنهما حلقة نار يقفز منها لاعبُ سيرك.. لكنها لم تكن تضع مساحيق الزينة التي كانت تتزين بها عندما قابلت فهيمة وحمدان

بادرتها سنية باسمةً:

- مساء الخير. أنت الست هنومة جارتنا الجديدة؟
- مساء النور..نعم..أنا هنومة
- أنا سنية أم فهيمة, الصبية التي تحدثت معها البارحة
- آه.. تفضلي بالدخول يا حبيبتي. البيت بيتك
تسمح هنومة لسنية بالدخول وتستأذنها للحظات, فتبدأ الزائرة رحلة الاستطلاع الفضولي والنظر في أرجاء الشقة وأثاثها الجديد الذي يدل على الحالة الميسورة التي كانت عليها هنومة

الصالة الكبيرة تتوسطها مائدة طعام ذات كراسٍِ خشبية بينة اللون ومساند من القطيفة. وفي الصالون الذي تغطي شرفاته ستائر حريرية بيضاء تحتل أريكة وثيرة موقعاً رئيسياً، وإلى أمامها مائدة صغيرة ينام عليها إناء للزهور ومنفضة سجائر أنيقة. وعلى الجدران تطل صور عدة تشم منها رائحة الزمن. الجرامفون القديم كان مستنداً على قاعدة خشبية ذات لونٍ بني داكن في أحد أركان الصالة كأنه شيخ وقور غارق في التأمل..جرامفون؟ كانت سنية تحلم دائماً باقتناء مثل هذا الجهاز على سبيل الوجاهة لكن ثمنه كان يفوق قدرات عائلتها
وسط اندهاش سنية من فخامة الشقة وحسرة عينيها اللتين كانتا وسيلتها لالتقاط صور فوتوغرافية تحفظها في ذاكرتها عن منزل الجارة, عادت هنومة إليها بابتسامتها العريضة وصوتها المرتفع مرحبةً بالزائرة

بدت الجارة الجديدة وهي تسير بدلال في شقتها كأنها قطعة جيلي تهتز في طبق تكاد تقفز منه إلى الخارج...مشهد قد يسيل له لعاب الرجال


هبطت هنومة بأرطال لحم جسدها البض على الكرسي الخاص بها وهي تقول لزائرتها:
- فهيمة ابنتك جميلة للغاية, وحمدان مثل الشربات

ردت سنية وقد أشرق وجهها:

- عندي ابن أيضاً درس الطب, ما شاء الله شاب مثل الورد, اسمه حسين. الذرية الصالحة فضل من عند الله ونعمة
- آه طبعًا. أنا عندي ابن اسمه عادل, في الثالثة من عمره, هو ابني الوحيد من طليقي الأخير محمود

ابتسمت الست سنية, ثم قالت بفضولٍ, باحثةً بعينيها الحائرتين عن عادل:
- وأين هو ابنك؟ لم أره بعد
- عادل ليس هنا, بل إنه يعيش مع والدتي في الأنفوشي بالإسكندرية, وأزوره كل جمعتين
- لماذا ؟ الأطفال نعمة من عند الله
- طبعاً طبعاً.. لكن ظروف عملي صعبة، وتأخري خارج المنزل يجعلني غير قادرة على رعايته..فهو ما زال في سن صغيرة
- عملك؟..ماذا تعملين يا أم عادل؟

بلهجةٍ فاترة جاءت إجابة هنومة:

- راقصة

ارتبكت سنية من وقع المفاجأة كأنما وجدت نفسها فجأة في مواجهة قطار يسرع باتجاهها, فقالت والكلمات تتعثر على شفتيها:

- ماذا؟ راقصة؟..أعوذ بالله..ربنا يغفر لك
رفعت هنومة حاجبيها المزججين كخط رفيع قبل أن ترد بحسمٍ ولهجة مستنكرة:
- لماذا؟ هل الرقص سيء إلى هذا الحد؟

هبت سنية من مجلسها واستأذنت في الانصراف لتفر من منزل هنومة هاربةً بأقصى سرعة كأنها تبتعد عن وباء الطاعون, في حين بقيت هنومة جالسةً ببرود شديد على كرسيها المرتفع, لا يشغل بالها شيء ..ربما هي حالة من عدم الاكتراث برأي الآخرين ونظرتهم إلى مهنتها بعد أن اعتادت على نفورهم ممن تعملن راقصات. كانت تعلم منذ البداية أنها لن تحظى بالعديد من الجارات في الحارة بسبب عملها كراقصة. قالت لنفسها: "نساء تافهات ورجال أكثر تفاهة.. يتهربون مني لكنهم حين يريدون إحياء أفراحهم وإدخال السعادة والسرور على قلوبهم لا يجدون غيري لإسعادهم وإحياء لياليهم الساهرة.. مسكينة الست سنية"

وعلى درجات السلم المؤدية إلى شقتها، كانت سنية تحوقل وتستغفر قائلة: "راقصة! أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. لم يكن ينقص الحارة إلا هذا"..في حين كان صوت هنومة يتناهى إلى سمعها وهي تدندن بأغنية عابثة من تلك التي اعتادت أن ترقص على إيقاعها في الأفراح والليالي الملاح

وما بين درجات السلم المؤدية إلى الطابقين اللذين يفصلان بين منزلي المرأتين، كان هناك عالم واسع شاءت الظروف أن يجمع بينها في الحارة ذات الدروب الضيقة

4 comments:

Muhammad Aladdin said...

لا حلوة يا ايمان.. فعلا يعني.. بس انا عايزك ناخدي بالك من حاجتين بخصوص اللغة
و ما اقصدش باللغة النحو و الصرف، لكن اولا قيمة الاختزال.يعني نزع ما قد يمكت اجماله بكلمة، ده اولا. ثانيا فكرة الاصطكاكات النمطية. احب اني اشوفك دايما مبتدعة في تراكيبك، و مش اقصد بده الاهتمام باللغة علي حساب اي شيء، او تعمد الغرائبية و التشبيهات الفارغة، بس اقصد ان اللغة النمطية بتعبر اولا عن طريقة تفكير نمطية، و بعدين، و لو مافيش حصافة كافية، بيصبح التفكير حبيس اللغة في مرحلة متقدمة.. انا مش قلقان عليكي لأنك بتجربي دايما زي ماانا عارف، و يديكي العمر كله يا ستي
:)
يعني مثلا العبارة دي بتلخص النقطتين دول
"
بدت الجارة الجديدة وهي تسير بدلال في شقتها كأنها قطعة جيلي تهتز في طبق تكاد تقفز منه إلى الخارج...مشهد قد يسيل له لعاب الرجال"
فيما يخص النقطة الاولي فانت اكيد مش محتاجة للجملة الاخيرة "مشهد قد يسيل له لعاب الرجال" للجرعة الحسية اللي مفهوم منها النتيجة، و فيما يخص النقطة التانية ان تشبيه جيلي ذاته هو اصطكاك نمطي
ح تسأليني طب يا سيدي انت ايه الجديد بقي؟؟ ح اقولك ده بتاعك انتي طبعا.. بتاع موهبتك
و ساعات برضه، فيه اصطكاكات نمطية مهيمنة، ما اقدرش اقول لأ، بس اللي بعد ده هو التفكير في دواعي التشبيه بشكل تاني.. ليه التشبيه ده بقي نمطي طيب؟ ليه الناس معتمداه؟
طبعا دي طريقة برضه عرضه للنمطية، بس ممكن تساعدك لما تسألي نفسك عن ندي ارتباك الاصطكاك بالبيئة مثلا؟؟ بالظروف الاجتماعية؟؟ و بعد التفسير يأتي خبث الافصاح عنه.. و مش شرط دايما، بشكل خبيث، يكون التفسير صح او حقيقي
:)
.. ده من وجهة نظري الشخصية المتواضعة
و قل ما انهي فقرة التذاكي دي احب برضه انبهك لاسلوب في الكتابة بيعتمد علي رص النمطية رص محسوب اوي، و فني اوي، زي كده مقلا الجمل التقريرية الجافة المعتادة، اللي بتتقلب لسحر لما تحطيها في سياق متصل بخبث و دأب معروف بعينه.. بس دي مرحلة متقدمة جدا في الكتابة و مش شرعي و لا عادل اني اطالبك بيها دلوقت
و برضه، بجملة التذاكي، احب اقولك اني اتمني ان الللي بقولهولك ما تخديهوش علي انه نقد او التفات لمناطق الضعف--تاني من وجهة نظري الشخصية المتواضعة طبعا--دون القوة.. الحقيقة ان النص المكتوب لا يتناسب مع عمرك بشكل ايجابي جدا، و لولا ده مكنش اي حد من المعلقين علي كتبتك كان قال شيء
:)
تحياتي يا مبدعة يا صغيرة يا موهوبة
امضاء
جدو المتذاكي
:)

Eman Yasser said...

Muhammad Aladdin:

بيني وبينك أنا لم أفهم كل كلامك خاصة موضوع الاصطكاكات النمطية. أنا أعرف اصطكت أسنانه، وهذا هو آخر علمي :))

عموماً، أشكرك جداً على اهتمامك وتأكد أنني أحاول تطوير نفسي وإن شاء الله في العمل الجديد ربما تلاحظ الفارق. تحسن مستواي كثيراً لأنني أشعر الآن أن ما كتبته في البداية كان في حدود معلوماتي وخبراتي المحدودة. أما الآن فأعتقد أن القراءة للآخرين أفادتني في تحقيق تقدم ولو بسيط

شكراً لك مرة ثانية يا صديقي الكبير

نعناعة said...

تصدقي يا ايمان انا كمان ما فهمتش كلام مخمد :) كل الى قدرت عليه هو الاصطكاكات النمطية
الاصطكاكات جاية من صكّ يعنى نموذج مطبوع على شكل معين .. حاجة كده وى الاسطمبا فغالبا كده محمد عايز ينبهك لان فى جمل او تعبيرات استهلكها الادباء ختى فقدت رونقها وهو عايزك بدل ما تستخدمى عبارات استخدمها غيرك فبل كده تستحدمي عبارات وتعبيرات بتاعتك زى مثلا لما قلتى ((صوتها العالى طاغيه يسود المكان)) حلوه حلوة اوى الجمله دى ما شوفتهاش فبل كده دى جملتك انتى بينما الاستمبا او النموذج المعتاد بيكون كده (( صوتها العالى يطغيى على المكان )) انت بقى لعبتى على تفس المعنى بجمله جديده ليها رونق جديد ... هو ده الى محمد عايزك تاخدى بالك منه

Eman Yasser said...

شورق:
شكرا يا شروق لأنك فهمتينى وخلتينى أفهم أيضاً ألفاظ لم أكن أفهمها، أرجو أن تظلى على متابعة لمدونتى لأنك سأواصل الكتابة فيها ولكن هذه مرحلة قد لا أستطيع أن أكتب فيها الكثير لكنى أود أن تظلى قارئة دائمة لمدونتى