Sunday, March 11, 2007

مصر في حارة: 10


محمود دياب
" 10 "
جاءت أيام الشتاء الهامدة, رش السكون مسحوقه السري على شوارع الحارة.. الحديث الوحيد بين سكانها الصمت، كأنهم سئموا الثرثرة طوال باقي فصول السنة، واستعدوا لحالة من البيات الشتوي التي تصل إلى حد السبات
راود فهيمة رضوان شعور بأن أيام غياب الأخ حسين قد عادت بعدما كانت العائلة تتوقع انتهاءها.. كان الشاب كثير التنقل من مكان إلى آخر كأنه يبحث عن شيء ما غامض يبحث عنه. تشاجر الأب معه كثيراً، حتى إنه قال له ذات يوم بصوته الجهوري:
- لم نعد نراك كثيراً يا حسين، ماذا جرى.. أين تذهب؟
فلا يخرج حسين عن هدوئه، ويجيب قائلاً بنبرة أرادها محايدةً: "ذهبت إلى العمل ونسيت نفسي" أو "أحببت أن أتنزه فسرقني الوقت"
ويصدقه رضوان أفندي بعدما تستر بالحدة حتى يخفي السذاجة, وقد صدقته الأسرة بأكملها.. إلا فهيمة, حيث تتبعت بذكائها الفطري تصرفات وردود فعل أخيها لتحصل في كل مرة على النتيجة نفسها: "يوجد سرٌ ما يخفيه أخي". تلف الفتاة وتدور على أخيها لكن من دون جدوى، إذ إن نباهة حسين وهدوء أعصابه جعلاه يتجاوز الاختبارات والحيل التي لجأت فهيمة إليها لاستدراجه وربما دفعه إلى الكشف عن مكنون صدره
تحاول الفتاة ألا تشغل ذهنها، لكنها سرعان ما تعود وتلاحظ كثرة غيابه. غير أن الأحجية بقيت غامضةً تبحث عن قطعة أخيرة

وفي صباح يوم جمعة كان حسين يحتسي كوباً من الشاي ويقلب صفحات الجريدة بيده الأخرى، حينما تذكرت الأم فجأة حكاية زيارة صديقه القديم طاهر له خلال فترة سفره. انتبه حسين وترك من بين يديه الجريدة متوقفاً عن قراءتها ليسأل أمه:
- هل قال لك أين يسكن يا نينة؟ أود أن أزوره
فتسرع سنية كأنها تتباهى بأن ذاكرتها لم تحنها هذه المرة.. فتقول:
- يسكن بجانب بقالة البحيري التي تقع قبالة قهوة عم داود
- عظيم، سأزوره اليوم إن أمكن ذلك. كم أود أن أراه هو ومحمود.. من يدري ربما نجتمع في شقته، مثل أيام المرحلة الابتدائية
وانتهى الحوار من دون هدف، فأكملت سنية احتساء قهوتها في حين واصل حسين مطالعة الصحيفة
وفي منتصف النهار، حيث ضوء الشمس ينشر حضوره الطاغي على سماء المدينة، ذهب حسين لزيارة صديقيه، ليفتح له باب البيت شاب أسمر, ربعة، تجمع نظرة عينيه بين السذاجة والبراءة.. يتطلع إليه حسين لأول مرة ثم يسأل قائلاً:
- مساء الخير.. هل طاهر ومحمود موجودان؟
فيسأل الشاب بصوته الممتليء:
- نعم.. من أقول لهما؟
- قل حسين .. حسين المنياوي
- عفواً..هل قلت حسين المنياوي؟
فيجيب حسين وابتسامته الواثقة تتسع:
- سيتعرفان علي بمجرد إبلاغهما بقدومي إلى المنزل
ينظر الشاب إلى حسين بعينين متسائلتين, ثم ينادي على صديقيه, فيأتي طاهر, وبعد لحظة يقبل محمود بعينين نصف مغمضتين كأنه كان مستغرقاً في النوم، أما عينا طاهر فتلتمعان وتتسع ابتسامته وتظهر غمازتا وجنتيه اللطيفتين، مرحباً:
- حسين المنياوي صديق عمري؟
يهز حسين رأسه موافقاً, فيضمه طاهر بين ذراعيه, ويربت على كتفه في ودٍ بالغ. يبادره حسين بالسؤال:
- كيف أحوالك يا صاحبي؟
- أنا بخير يا حسين, تفضل يا صديقي
حتى تلك اللحظة, لم يكن محمود دياب يتذكر جيداً زميل دراسته حسين, مع أنه لمس مدى عمق الصداقة التي تجمع بينه وبين طاهر ..غير أن حسين كسر حاجز الجليد بينهما سريعاً, وحاول إنعاش ذاكرته وسرد طرفٍ من حكايات الصبا, لتضيء ذاكرة محمود تدريجياً ويرتسم طيف ابتسامةٍ خفيفةٍ على ملامح وجهه. محمود هو محمود, احتفظ بالشخصية القديمة نفسها التي تظهر من الريبة والشك ما يثير لدى الآخرين شعوراً بالتحفظ وربما النفور من التعامل مع صاحبها. انطوائيته لا تخفى على أحد، لكنه لا يمانع في التعامل مع الآخرين ما داموا ضيوفاً لا رغبة لديهم في الإقامة طويلاً بين جنبات عقله أو ذاكرته. كان شخصية صامتة معظم الوقت، فلا يبدأ حديثاً ولا يطلق ضحكة ولا يفجر نكتةً تشيع أجواء من البهجة في جلسات الأصدقاء
مرت فترة من الأحاديث المتواصلة ومن ثم سألهما حسين عن ذاك الشاب الذي فتح باب الشقة, فاتضح أنه زكريا القناوي, صديقهما رقيق الحال الذي يتقاسم معهما بصعوبة بالغة وعناء شديد نفقات العيش في هذا المسكن المشترك
كم كان ذاك اليوم حافلاً بالأحاديث والحكايات, حتى إن حسين أصر على دعوة طاهر ومحمود وزكريا لزيارته في منزله. أشرق وجه طاهر الذي بدا أكثر الثلاثة سعادةً بهذه الدعوة الكريمة... فهو لم ينس يوماً تلك الملامح المتدفقة بالبراءة والجمال لفهيمة المنياوي. ومع أن الظروف لم تسمح له من قبل سوى بتبادل التحية العابرة فإنه كان يشعر بشيء غامض يهز مشاعره كلما وقعت عيناه عليها
وفي نهاية اليوم الطويل, ودع حسين أصدقاءه الثلاثة, وعاد متأخراً إلى المنزل ليحكي بسرور لكلٍ من أمه وشقيقته عن لقائه بعد طول غياب مع أصدقائه القدامى, كأنما طفل صغير يحكي عن مغامرة شائقة حدثت له للتو
أما فهيمة فلم تكن تلقي بالاً لهذه الحكايات، سوى لمجاملة شقيقها الأكبر.. لم تكن تشعر بأي شيء عندما يتردد أمامها اسم طاهر، الذي كان يذوب عشقاً لمجرد ترديد اسمها أمامه

4 comments:

tota said...

يبدو انكى فى الفترة الاخيرة انشغلتى فى المذاكرة وتركتينى حائرة ابحث عن بقية الفصول لاتابع معك الاحداث قبل ان افقد خيط التواصل بين الفصول من فرط التباعد بينهم
ولكن حاولت بعد هذه الغيبة استرجاع الحارة واهلها لاربط الفكرة مرة اخرى
اما هذه المرة فقد تلاعبتى بالالفاظ جيدا وتركتينا معلقين نبحث عن السر واللغز او القطعة الناقصة التى تكمل الاحجية كما قلتى
يا عزيزتى لا تطيلى حتى لا افقد الخيوط مرة اخرى
تحياتى

عمرو غريب said...

كلامك جميل اوي تا ايمان وانا اتوقع لكي ان تكوني كاتبة وصحافية مشهورة وبكرة تفتكري اتمني ان تدخولي مدمنتي الرياضية وتقولي رائيك بصراحة لان انا لم اجاملك واتمني منك ذلك مدونتى اسمها بيت الرياضة وهي علي موقع amr 345. blog spot .com

قبل الطوفان said...

Tota:

فعلاً كنت مشغولة بالمذاكرة والامتحانات التي لا تنتهي.. كأنها دوامة
الحمد لله تمكنت من نشر ثلاثة فصول متتابعة.. والسر الغامض سينكشف في الفصل التالي..شكراً لك يا عزيزتي على حسن المتابعة والاهتمام


عمرو:

أشكرك يا عمرو. أرجو أن أكون كاتبة لكن المسألة تحتاج إلى كثير من القراءة والاجتهاد وأتمنى أن أحقق ذلك

زرت مدونتك الرياضية بالفعل.. هناك موضوعات أعجبتني مع أنني لست متابعة جيدة مثلك للنشاط الرياضي في مصر.. واضح أنك أهلاوي صميم :))

الريم said...

دكتور ياسر هى ديه مش المفروض مدونة ايمان حضرتك ليه بتجاوب بدالها انا مستغربة الصراحة انت جيت هنا ازاى بس بجد هذا الشبل من هذا الاسد