Thursday, February 8, 2007

مصر في حارة: 8

حسين رضوان
" 8"
ساد الظلام الدامس أنحاء الحارة، وبسط الهدوء نفسه على أرجائها بعد يوم آخر من الحركة والجلبة والصياح والعمل المتواصل. نام بعض أهالي الحارة استعداداً لأيام مقبلة من العمل والبحث عن الرزق في دروب الحياة، وسهر فريق آخر بحثاً عن الألفة مع الأصدقاء والأصحاب، لكن الغالبية لزموا بيوتهم بسبب برودة الجو

وحده الهدوء كان سيد الموقف

حتى أصوات الحوارات الثنائية والنقاشات حول شؤون وشجون الحياة كانت تنتقل كالعصافير في تلك الحارة الشعبية الوديعة.. الموسيقى التي تتسلل من شباك أحد الساهرين، والصوت المنبعث من جهاز تليفزيون يعرض فيلماً كلاسيكياً قديماً.. كلها تلاقت في أجواء الحارة، في حين أخذ كل واحد يسبح في عالمه الخاص

أما الهدوء فكان يتولى توزيع تلك الأصوات على البيوت المتراصة بقسمةٍ عادلة.. أصوات قد لا يسمعها الناس في النهار حيث تختلط نداءات الباعة الجائلين ولهو الأطفال ونميم الجارات المتبادل عبر الشرفات الخشبية والمشربيات التي تفوح منها رائحة التاريخ
كان حمدان مستلقياً على سريره، وقد بدأ يغوص في دنياه الصغيرة، عندما سمع نداءً ملؤه اللهفة:
- يا رضوان أفندي .. يا أم حسين ..استيقظا
هذا الصوت الخشن..مألوف.. مُنتظر كأنه نبي.. خفق قلب الصبي، وانتبهت حاسة السمع لديه لتلتقط تفاصيل الصوت للتأكد من هوية صاحبه .. بكل دقة ممكنة، ولم تكن الدقة من عاداته

صوت جعله يتجمد في مكانه, أيقظ أحاسيسه لتتدفق دماؤه في شرايينه كأنها في حالة تأهب واستنفار, فأطل برأسه من النافذة واللهفة تسري في عروقه الساخنة. إنه يأمل بأن يكون ظنه صحيحاً

نظر بعينين يملؤهما الأمل فرآه بوضوح

إنه حسين.. أخوه الغائب منذ سنوات، يقف تحت النافذة..ها هو حسين بقامته القصيرة وبنيته العريضة..ها هي عيناه الذكيتان ووجنتاه المنتفختان، كل شيء مضبوط، فيصيح الفتى منادياً بلهفة:
- حسين؟ حسين أخي؟
ابتسم حسين -فيرى أنها نفس الروح العميقة- وأجاب مداعباً:
- نعم، أنا يا أستاذ حمدان. افتح لي الباب بسرعة، أو نادي على أم حسين أو أبيك، أسرع يا ولد!

يكاد الفتى لا يصدق نفسه بعد ذلك الانتظار الطويل, فيقف لفترة طويلة دون حركة، وعيناه تلتمعان ببريق الفرحة واللهفة على أخيه, فيناديه حسين كأنما يوقظه من حلم:
- نمت يا حمدان ؟!
يقهقه حمدان من قلبه, ثم يركض إلى غرفة والديه النائمين ليوقظهما من عالم السكون إلى دنيا المفاجآت، ثم ذهب يسابق خطاه ليوقظ فهيمة, والابتسامة تعلو وجهه, فيفتح الأب باب العمارة بعباءته البيضاء الهفهافة، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة، وقلبه ينبض بالسعادة والأمل.. الصفات التي فقدها -وربما افتقدها- لبضع سنوات مضت

من وسط سحابة دموعها تراه الأم سنية، ثم تتأمل قسمات وجهه التي كانت قد حرمت منها لفترة ظنتها دهراً, فتخال أنها تحلم, لكنه يبدو لها على أي حال مثل رؤيةٍ رائعة تأتيها في منامها.. وهو أيضاً، اشتاق إلى كل تلك الصور والوجوه التي أمامه: دوامات الحنين تصنع فينا كل ما ما يشكل وعينا في لحظات

إنه يشتاق إلى هذا العناق حين ضمته أمه بين ذراعيها الممتلئتين, فينضم إلى أعماق طرية, والدموع تتساقط من عينيها العسليتين. ها هو يعود طفلاً إلى حضن أمه كأنه يتكور ليصبح جنيناً يعود إلى رحم تلك السيدة التي تنظر بدورها إلى السماء الداكنة، وتلهج بالشكر:
- الحمد لله يا رب.. الحمد لله
يضم رضوان أفندي ابنه البكر ويحمد الله ويشكره هو الآخر. تقع عينا حسين على أخته الصغيرة, فتغرورق عيناها بالدموع, لكنها تتحرك من على السجادة ذات النقوش القديمة، وبعد دقيقة تضع يدها اليمنى تحت أنفها الدقيق, وتزغرد تلك الزغرودة التي ترن في أذن كل فرد من أفراد الحارة، ثم ترفع يديها وتهتف من قلبها:
- الحمد لله يا رب العالمين
والزغرودة تتكفل بتحريك الجو الهاديء في الحارة كأنها إعلان غير مدفوع الأجر عن وقوع حادث سعيد، فيتمتم بعض متسائلاً في فضول: "خير إن شاء الله"، في حين يصبح للزغرودة صداها الفوري، فترتفع زغاريد الرد من جنبات الحارة، حتى قبل أن تفهم كثيرات حقيقة ما جرى
يدخل حسين منزله بخطى صغيرة، وعينين تتأملان وترصدان لمسات التغيير بفعل الزمن الذي غاب فيه عن المكان، فتقول له أمه:
- يا حبيبى.. لن نسمح لك أبداً بالخروج من البيت قبل أن نشبع منك ومن الحديث معك ومعرفة أخبارك.. لكن قل لي في البداية ما الذي أخرّك كل تلك المدة الطويلة؟
ينظر حسين إليها لدقيقة وكأنه على وشك أن يقول شيئاً، ثم يهز رأسه ويهمس:
- أنا غاية في السعادة لأني عدت إلى بيتى وأهلي وناسي... والله لم أنس أحداً منكم، ولو ليوم واحد
تشيع البهجة دفئاً خاصاً في أرجاء المنزل، إلى أن أحضرت فهيمة وعاءً فيه ماء ساخن وهي تقول باسمة لدى جلوسها عند قدمي حسين:
- سأغسل قدميك بالماء الساخن المنعش

وما إن شمر حسين عن قدميه ويرفع أطراف بنطاله الرمادي اللون, حتى لاحظ الجميع تغير لون رجلي الشاب العائد واحمرارهما, فتشهق الأم وتتساءل في حنو:
- خير يا ولدي, ماذا حدث لقدميك؟
ضحك حسين على انفعالها, فقال مبتسماً:
- لا شيء يا أمي, لا تجعلي من أتفه سبب مشكلةً ضخمة! ربما التهبت قدماي خلال يومي الطويل إلى أن عدت إليكم . لا تقلقي عليّ بعد اليوم يا أم حسين
ارتسمت على وجه سنية ابتسامة اطمئنان, ثم قالت بهدوءٍ وحنان:
- وما الذي جعلك تغيب عنا يا حبيبي طوال هذه السنوات؟ ولماذا كانت رسائلك قليلة وتأتينا على فترات متباعدة؟

احمر خدا حسين فجأة, فقال والكلمات تتعثر على شفتيه:
- ليس هناك من سبب معيّن, لقد طالت مدة المنحة, ونسيت في غمرة الدراسة ومتطلباتها الوقت والزمن. المهم أن المنحة انتهت وأنني عدت إليكم.. سأستقر معكم إلى الأبد, ولن أسافر مرة ثانية أو أبتعد عنكم إن شاء الله

ابتسمت سنية في رضى وسعادة, وشعرت بأن الدنيا عادت لتمسح عنها دموعها وتغسل قلبها من الأحزان التي سكنت قلبها لسنوات طويلة
لكن السعادة طائر لا يقيم طويلاً ولا يعرف كيف يصنع له عشاً في قلوبنا.. والفرحة تفهم فقط لغة الترحال كأنها لا تحب الاستقرار في مكانٍ ما

السعادة؟
إنها استراحةٌ قصيرة وسط عذابات كثيرة

3 comments:

tota said...

ايمان
طالت غيبتك هذه المرة فيأست من تتابع الاحداث
يبدو هذا الفصل فى اسلوبه مختلف يبدو به نضج فى الاسلوب ولا اجد تفسير محدد لذلك
حتى الكلمات المستخدمة فى الوصف قوية والتعبيرات ملائمة للجو اكثر
على ما يبدو كلما نقترب من النهايات يزداد النضج اكتر
تحياتى

Eman Yasser said...

Tota:
أنا آسفة على التأخير جدا، لكن الدراسة شغلتنى ولذا فإنني قليلا ما أتابع نشر مزيد من الفصول، وسأحاول أن أسرع أكثر إن شاء الله.
فعلا الكلمات المستخدمة قوية، حيث حاولت أن أنسجم فى الفصل وأكون فرداً من العائلة حتى أشعر بما يشعرون به ويكون الوصف أحلى
شكرا لمتابعتك وملاحظتك التى تفيدنى وأستمتع بقراءتها

محمود سلامة said...

أسجل إعجابي ومتابعتي
إسلوبك جميل ومشوق
نادرا ما يؤثر في نفسي إسلوب ما
الأديبة إيمان ياسر
نحن على مشارف الشتاء والشتاء فصل إبداعي فماذا ستقدمين في هذا الفصل الهادئ ؟
تحياتي
محمود سلامة
ونتشرف بزيارتك لــ دوار ابوسلامة