Friday, February 9, 2007

حارتى البسيطة..و"الشارع" الكبير


كان ذلك فى نهار يوم الجمعة، 9 فبراير: نهار المفاجأة الرائعة التى دفعتنى إلى التحليق كأننى طائر السعادة والفرح

كان الهواء شديد البرودة عندما استيقظت متأخرة ومتكاسلةً قبيل الظهر، وبدأت روتين حياتى اليومية فى آخر أيام إجازة منتصف العام الدراسى. ولما عاد أبى إلى المنزل فاجأنى ببضع أوراق يحملها بين يديه. ظننت فى البداية أنها أوراق خاصة به، لكننى اكتشفت لاحقاً أنها تتعلق بى شخصياً، إذ وجدت بها مقالة مدهشة تتحدث عن تجربتى الصغيرة فى كتابة روايتى البسيطة: مصر فى حارة

كانت مفاجأة عقدت لساني.. إنها المرة الأولى التى أجد فيها شخصاً آخر غير أبى يهتم بى إلى هذا الحد الكبير، ويشجعنى ويزودنى بالنصائح التى تهدينى إلى تجربة أكثر عمقاً فى عالم الرواية. أخبرنى أبى أنها مكتوبة فى مدونة تدعى "الشارع" بقلم الأستاذ عبد الحق

خفق قلبى بشدة وتسارعت دقاته، وسيطر الفضول على عقلى حين أخذ أبى يقرأ علىّ بصوته الهادىء المحبب إلى النفس ما هو مكتوب فى تلك الأوراق المطبوعة من مدونة "الشارع". ومع كل سطر كنت أكتشف عالماً جديداً كان أبى يحدثنى عنه دائماً بثقةٍ وتفاؤل: الذين يعطون من قلوبهم وأرواحهم ولا ينتظرون المقابل

وجدت فى التدوينة نقداً شاملاً أدهشنى، كما قرأت فيها مجموعة من الملاحظات والتعليقات المهمة التى ستفيدنى فى الكتابة الأدبية وعندما أحاول كتابة أى محاولات إبداعية جديدة فى المستقبل إن شاء الله

تعثرت الكلمات بين شفتى ولم أقدر إلا أن أبتسم وأتأمل الكلمات التى شجعتنى كثيراً و أفادتنى، بل لم أدر ما أفعله. لم تكن الكلمات كافية كي أجيب على تلك الكلمات الراقية، ولم أكن لأستطيع أن أرد بالعرفان المناسب لهذا الجهد الكبير وتلك الأوصاف الرائعة التى أهدانى إياها صاحب مدونة "الشارع" مهما حاولت أن أفعل

الشكر سيظل أقل مما ينبغى والتقدير سيكون دائماً متواضعاً بالمقارنة مع هذه التدوينة الاستثنائية التى منحتنى شعوراً يفوق الوصف والخيال

أنا محظوظة

نعم.. فقد كتب عنى صاحب مدونة "الشارع" مقالاً له طعم خاص ووقع رائع على عقلى وذاكرتى، مثلما كتب لى الدكتور أسامة القفاش من قبل رسائل عبر البريد الإلكترونى نبهتنى إلى أخطاء كنت أقع فيها بحكم تواضع تجربتى وخبرتى فى الكتابة.. كما التقيت مرة الروائى الشاب محمد علاء الدين الذى استفاض فى الكلام عن أسلوب كتابة العمل الأدبى، وكنت أتابع حديثه باهتمام شديد. كذلك وجدت تعليقات مهمة ومشجعة من سامية جاهين وتوتا ورات وشروق وشريف نجيب وعدد كبير آخر من المدونين تجعلنى أحس بأننى أكتسب منهم خبرات شديدة الثراء تضيف إلى رصيدى الكثير

اليوم الجمعة حمل لى شعوراً مختلفاً عما أشعر به كل صباح، خاصةً عندما فتحت مدونة "الشارع" للأستاذ عبد الحق ذات الموضوعات الهادفة التى جذبتنى إلى قراءتها والاطلاع عليها، وأنا أرجو من الله أن ينال باقى فصول قصتى اهتمامه وإعجابه، وأن أكون دوماً عند حسن ظنه، حيث علمت من أبى أنه رجل مثقف ذو خبرة كبيرة ورؤية عميقة. وما زلت أذكر رد فعل أبى عندما علم فى بداية رحلتى مع التدوين أن هذا الكاتب المحترم ترك تعليقاً عندى، إذ قال لى: عبد الحق كتب لك؟ هذا رائع.. أتعرفين قيمة هذا الرجل؟.. ثم أخذ يحكى لى عنه بكل تقدير وإعجاب

ومن يومها وأنا أفرح كلما أرسل لى تعليقاً أو ملاحظة بخصوص روايتى الأولى. وقد اقتنعت شخصياً بثقافته العريضة فى الأدب والسياسة عندما طالعت مدوناته، حيث إنه يكتب موضوعات هادفة بطريقة منظمة وبسيطة، وتأكدت عبر أسلوبه الرصين والسلس أنه يحب ما يكتب ويملك رسالة وأفكاراً جادة يريد توصيلها إلى القراء

أستاذ عبد الحق: أشكر حضرتك شكراً جزيلاً مرة ثانية لاهتمامك بى، كما أشكرك على الشعور الجديد الذى شعرت به عند قراءة ما كتبت من ملاحظات. أرجو ألا تبخل علىّ بتعليقاتك النافعة وأن تخبرنى برأيك وملاحظاتك على فصول قصتى وأسلوب كتابتى

أنا من اليوم أعتبرك صديقاً كبيراً وأستاذاً أتعلم منه كيف أشق طريقى فى عالم الكتابة.. وكم أتمنى من كل قلبى أن أحقق فى المستقبل ما يتفق مع الرؤية المشرقة التى تتوقعها لى، وأن أستحق يوماً ما هذا "السلام المربع" الدافىء الذى منحته لى

الله.. ما أجمل يوم الجمعة

Thursday, February 8, 2007

مصر في حارة: 8

حسين رضوان
" 8"
ساد الظلام الدامس أنحاء الحارة، وبسط الهدوء نفسه على أرجائها بعد يوم آخر من الحركة والجلبة والصياح والعمل المتواصل. نام بعض أهالي الحارة استعداداً لأيام مقبلة من العمل والبحث عن الرزق في دروب الحياة، وسهر فريق آخر بحثاً عن الألفة مع الأصدقاء والأصحاب، لكن الغالبية لزموا بيوتهم بسبب برودة الجو

وحده الهدوء كان سيد الموقف

حتى أصوات الحوارات الثنائية والنقاشات حول شؤون وشجون الحياة كانت تنتقل كالعصافير في تلك الحارة الشعبية الوديعة.. الموسيقى التي تتسلل من شباك أحد الساهرين، والصوت المنبعث من جهاز تليفزيون يعرض فيلماً كلاسيكياً قديماً.. كلها تلاقت في أجواء الحارة، في حين أخذ كل واحد يسبح في عالمه الخاص

أما الهدوء فكان يتولى توزيع تلك الأصوات على البيوت المتراصة بقسمةٍ عادلة.. أصوات قد لا يسمعها الناس في النهار حيث تختلط نداءات الباعة الجائلين ولهو الأطفال ونميم الجارات المتبادل عبر الشرفات الخشبية والمشربيات التي تفوح منها رائحة التاريخ
كان حمدان مستلقياً على سريره، وقد بدأ يغوص في دنياه الصغيرة، عندما سمع نداءً ملؤه اللهفة:
- يا رضوان أفندي .. يا أم حسين ..استيقظا
هذا الصوت الخشن..مألوف.. مُنتظر كأنه نبي.. خفق قلب الصبي، وانتبهت حاسة السمع لديه لتلتقط تفاصيل الصوت للتأكد من هوية صاحبه .. بكل دقة ممكنة، ولم تكن الدقة من عاداته

صوت جعله يتجمد في مكانه, أيقظ أحاسيسه لتتدفق دماؤه في شرايينه كأنها في حالة تأهب واستنفار, فأطل برأسه من النافذة واللهفة تسري في عروقه الساخنة. إنه يأمل بأن يكون ظنه صحيحاً

نظر بعينين يملؤهما الأمل فرآه بوضوح

إنه حسين.. أخوه الغائب منذ سنوات، يقف تحت النافذة..ها هو حسين بقامته القصيرة وبنيته العريضة..ها هي عيناه الذكيتان ووجنتاه المنتفختان، كل شيء مضبوط، فيصيح الفتى منادياً بلهفة:
- حسين؟ حسين أخي؟
ابتسم حسين -فيرى أنها نفس الروح العميقة- وأجاب مداعباً:
- نعم، أنا يا أستاذ حمدان. افتح لي الباب بسرعة، أو نادي على أم حسين أو أبيك، أسرع يا ولد!

يكاد الفتى لا يصدق نفسه بعد ذلك الانتظار الطويل, فيقف لفترة طويلة دون حركة، وعيناه تلتمعان ببريق الفرحة واللهفة على أخيه, فيناديه حسين كأنما يوقظه من حلم:
- نمت يا حمدان ؟!
يقهقه حمدان من قلبه, ثم يركض إلى غرفة والديه النائمين ليوقظهما من عالم السكون إلى دنيا المفاجآت، ثم ذهب يسابق خطاه ليوقظ فهيمة, والابتسامة تعلو وجهه, فيفتح الأب باب العمارة بعباءته البيضاء الهفهافة، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة، وقلبه ينبض بالسعادة والأمل.. الصفات التي فقدها -وربما افتقدها- لبضع سنوات مضت

من وسط سحابة دموعها تراه الأم سنية، ثم تتأمل قسمات وجهه التي كانت قد حرمت منها لفترة ظنتها دهراً, فتخال أنها تحلم, لكنه يبدو لها على أي حال مثل رؤيةٍ رائعة تأتيها في منامها.. وهو أيضاً، اشتاق إلى كل تلك الصور والوجوه التي أمامه: دوامات الحنين تصنع فينا كل ما ما يشكل وعينا في لحظات

إنه يشتاق إلى هذا العناق حين ضمته أمه بين ذراعيها الممتلئتين, فينضم إلى أعماق طرية, والدموع تتساقط من عينيها العسليتين. ها هو يعود طفلاً إلى حضن أمه كأنه يتكور ليصبح جنيناً يعود إلى رحم تلك السيدة التي تنظر بدورها إلى السماء الداكنة، وتلهج بالشكر:
- الحمد لله يا رب.. الحمد لله
يضم رضوان أفندي ابنه البكر ويحمد الله ويشكره هو الآخر. تقع عينا حسين على أخته الصغيرة, فتغرورق عيناها بالدموع, لكنها تتحرك من على السجادة ذات النقوش القديمة، وبعد دقيقة تضع يدها اليمنى تحت أنفها الدقيق, وتزغرد تلك الزغرودة التي ترن في أذن كل فرد من أفراد الحارة، ثم ترفع يديها وتهتف من قلبها:
- الحمد لله يا رب العالمين
والزغرودة تتكفل بتحريك الجو الهاديء في الحارة كأنها إعلان غير مدفوع الأجر عن وقوع حادث سعيد، فيتمتم بعض متسائلاً في فضول: "خير إن شاء الله"، في حين يصبح للزغرودة صداها الفوري، فترتفع زغاريد الرد من جنبات الحارة، حتى قبل أن تفهم كثيرات حقيقة ما جرى
يدخل حسين منزله بخطى صغيرة، وعينين تتأملان وترصدان لمسات التغيير بفعل الزمن الذي غاب فيه عن المكان، فتقول له أمه:
- يا حبيبى.. لن نسمح لك أبداً بالخروج من البيت قبل أن نشبع منك ومن الحديث معك ومعرفة أخبارك.. لكن قل لي في البداية ما الذي أخرّك كل تلك المدة الطويلة؟
ينظر حسين إليها لدقيقة وكأنه على وشك أن يقول شيئاً، ثم يهز رأسه ويهمس:
- أنا غاية في السعادة لأني عدت إلى بيتى وأهلي وناسي... والله لم أنس أحداً منكم، ولو ليوم واحد
تشيع البهجة دفئاً خاصاً في أرجاء المنزل، إلى أن أحضرت فهيمة وعاءً فيه ماء ساخن وهي تقول باسمة لدى جلوسها عند قدمي حسين:
- سأغسل قدميك بالماء الساخن المنعش

وما إن شمر حسين عن قدميه ويرفع أطراف بنطاله الرمادي اللون, حتى لاحظ الجميع تغير لون رجلي الشاب العائد واحمرارهما, فتشهق الأم وتتساءل في حنو:
- خير يا ولدي, ماذا حدث لقدميك؟
ضحك حسين على انفعالها, فقال مبتسماً:
- لا شيء يا أمي, لا تجعلي من أتفه سبب مشكلةً ضخمة! ربما التهبت قدماي خلال يومي الطويل إلى أن عدت إليكم . لا تقلقي عليّ بعد اليوم يا أم حسين
ارتسمت على وجه سنية ابتسامة اطمئنان, ثم قالت بهدوءٍ وحنان:
- وما الذي جعلك تغيب عنا يا حبيبي طوال هذه السنوات؟ ولماذا كانت رسائلك قليلة وتأتينا على فترات متباعدة؟

احمر خدا حسين فجأة, فقال والكلمات تتعثر على شفتيه:
- ليس هناك من سبب معيّن, لقد طالت مدة المنحة, ونسيت في غمرة الدراسة ومتطلباتها الوقت والزمن. المهم أن المنحة انتهت وأنني عدت إليكم.. سأستقر معكم إلى الأبد, ولن أسافر مرة ثانية أو أبتعد عنكم إن شاء الله

ابتسمت سنية في رضى وسعادة, وشعرت بأن الدنيا عادت لتمسح عنها دموعها وتغسل قلبها من الأحزان التي سكنت قلبها لسنوات طويلة
لكن السعادة طائر لا يقيم طويلاً ولا يعرف كيف يصنع له عشاً في قلوبنا.. والفرحة تفهم فقط لغة الترحال كأنها لا تحب الاستقرار في مكانٍ ما

السعادة؟
إنها استراحةٌ قصيرة وسط عذابات كثيرة