Thursday, January 11, 2007

مصر في حارة: 7







سلوى مقار
" 7 "



هو لا يتوقف عن الغناء و الطرب على أرصفة الحارة الضيقة. يشبع حاجاته واحتياجاته من الطرب والغناء.. يعلو صوته المجلجل المتميز, فيسمعه جميع أهالي الحارة بآذان منصتة وصاغية وربما يلتفون حوله... يغني ويطرب عن الحب والكراهية والظلم والعشق والخداع, فيكسب بعض المال، قبل أن يقفل عائداً إلى منزله الذي يقع في حارة مجاورة لحارة الشرف

نعم, إن هذا هو عمله, يؤدي بإتقان الأغنيات والأدوار والمقامات التي لا تنسى من التراث الغنائي على الأرصفة الخالية, ويتحول في لحظات التجلي إلى إذاعة خاصة لهؤلاء البسطاء الذين يلحون عليه كي يؤدي أغنية تعلقت بذاكرتهم وربما لامست قلوبهم، فيتسجيب في رضى وسماحة.. قبل أن يضع عدد من المتجمهرين حوله بعض ما تجود به أنفسهم من مال في الصندوق الصغير الذي زينه برسومات وصور له ولقب خلعه على نفسه: سلطان الطرب

يجلس أبوه العجوز على كرسي خشبي بجواره, حيث لا يكف عن مطالعة الجرائد ومتابعة الأحداث المنشورة كأنه يبحث عن خبرٍ ما ينتظره.. لكن أذنيه دائماً مع الابن بصوته الرخيم كأنه رغيف ساخن به قطعة حلاوة.. فتسمع الأب يقول بإعجاب "الله" كلما أطربه صوت ابنه الشجي

وعلى مقربة منهما تتبادل سنية الحديث مع سعدية عبر نوافذ ذات المشربيات التي تنفتح وقت اللزوم على عالم الحارة, فتبادر سنية بالقول لصديقتها:
- لاحظي يا سعدية تلك النظرة الحزينة التى تشع من الابن, وأبيه صموئيل مقار!
ضحكت سعدية ملء فمها حتى بانت أسنانها، وقالت وهي تأخذ رشفةً من قهوتها الحارة:

- ماذا ألاحظ يا أم حسين؟ صموئيل مقار وابنه ناجي مجنونان للغاية...آه و الله. لم أسمع أبداً عن شخص يعمل في الشارع مطرباً. من يسمح لنفسه أن يغني ويطرب في منتصف الشوارع؟ أي جنون هذا؟ لست أتصور شخصاً يكسب المال بهذا العمل.. ثم إنها ليست وظيفة.. وهي أيضاً عمل غير مستقر.. يوم فلوس.. ويوم لا

- والله عندك حق, لا أحد يتعامل مع الأب وابنه, لكن هناك من يحب أن يسمع صوت الابن, بدليل أنه يكسب المال من تلك الوظيفة

كانت سنية محقةً في رأيها.. هناك بالفعل من يحب ويعشق صوت الابن ويسمعه يومياً وهناك من يمنحه بعض المال لذوقه في اختيار وأداء الأغنيات.. كانت على حق أيضاً عند قولها إنه ليس هناك الكثير من أهل الحارة ممن يتعاملون معه خارج نطاق الغناء.. وكان أبوه, صموئيل مقار, أباً أرمل له ولفتاة صغيرة, تماثل فهيمة في العمر أو أصغر منها بقليل تدعى سلوى. لم يكن أخوها ناجي ولا أبوها صموئيل يسمحان لها بالنزول إلى شوارع الحارة المزدحمة كثيراً, وكانا يطلبان منها أن تلهو مع جيرانها في فناء المنزل القديم.. ربما لأنهما كان يخشيان من ألسنة اهل الحارة ويريان أنها إذ نزلت أو حتى لمست أرض الحارة, سيكون هناك العديد من الأشخاص الجاهزين لجرح مشاعرها والاستهزاء من عمل أخيها، في مجتمع ينظر إلى الغناء في الشوارع باستهجان ويعتبره في النهاية نوعاً من التسول

وذات يوم أخذت سلوى تبكي وتلح كي تنزل إلى الشارع لمدة صباح واحد, تلعب وتلهو كجميع أبناء الحارة, فوافق الأب صموئيل بعد تردد كبير وطويل.. ركضت الصغيرة على الفور بسعادة حتى رأت بعينيها الجميلتين ذلك الشارع الضيق.. لحظتها شعرت بالهواء النقي يداعب وجهها ويلامس جسدها الغض ويعبث بشعرها الكستنائي القصير. فجأة لمحت فتاة وصبياً صغيراً, فراودها إحساس أقرب إلى اليقين: إن اللعب معهما سيكون شائقاً ومسلياً

اقتربت منهما ببطء وقالت برقة:
- مساء الخير
- مساء النور, من أنت؟
- أنا سلوى, وأنتما ؟
قال الفتى:
- أنا حمدان .. وتلك أختي فهيمة

نعم, إنهما فهيمة وحمدان اللذان اندمجا معها بسرعة كأن ثلاثتهم أصدقاء العمر..وسرعان ما اتخذ الشقيقان منها صديقة, لعبت وركضت لتسابق الريح وسط ضحكاتها الطفولية, ووجداها تملك من الطاقة والحيوية ما أضفى عليها جمالاً أخاذاً.. فقال لها حمدان:
- غريبة يا سلوى, كيف لم نر وجهك من قبل. أعتقد أنك لا تلعبين هنا كثيرًا, لكن أنت ابنة مَن في الحارة؟

خفق قلب سلوى وترددت, ثم قالت في ضيق اختلط باضطرابها:
- ابنة الجزار أو النجار, أو حتى العفريت الأزرق, ماذ يهم؟ لا يهم ابنة مَن.. المهم أن اسمي سلوى

ابتسم حمدان بود وبراءة. وبعد فترة صمت قصيرة دس يده في جيبه وأخرج منها كنزه الكبير: قطعة حلوى كان قد اشتراها في الصباح..منحها بود إلى صديقته الجديدة التي أخذتها وهي تشعر بالفرح كأنه منحها ثروة ضخمة..قبل أن يقول حمدان:
- عندك حق يا سلوى. والآن, هيا لنجد لعبة حلوة نلعبها معاً, لنغني سوياً, وسنرى من صوته الأجمل

وافقت سلوى على اقتراح الغناء, ووجدته لعبة مسلية فأخذت تصدح بأغنية "أوعى تكلمني, بابا جاي ورايا"

صوتها الذي ينساب كنهرٍ متدفق أدهش الطفلين الآخرين..فقالت فهيمة بأسلوبها المتكبر:
- صوتك جميل يا سلوى يا بنت الذي لا نعرفه, لكن صوتي أنا الأحلى
وافق حمدان على ما قالته شقيقته بشأن صوت سلوى:
- نعم, صوتك عجيب.. كأنك تغنين باستمرار

ثم قال فجأة:
- عندنا في الحي رجل اسمه ناجى مقار, أو ناجى صموئيل مقار ... صوته رائع, أحب أن أسمع صوته, لكن هناك من قال إنه متسول, يكسب ماله من الغناء في الشوارع وتسول النقود بهذه الطريقة

ارتبكت وغضبت سلوى من الحديث عن أخيها الوحيد, وكادت أن تغير دفة الموضوع ولكنها وجدت نفسها تخوض معركة لم تكن مستعدة لها

فقد اندفعت فهيمة, وعلا صوتها الحاد وهي تهز رأسها في ضيق قائلة:
- لا تتكلم في سيرته, إنه مجنون
- لا.. ليس مجنوناً

عبارة وجدت سلوى نفسها تقولها بصوت مرتفع.. تعجبت فهيمة وقالت ببطء مع احتفاظها بأسلوبها المتهكم:
- كيف عرفت يا ست سلوى, إن شاء الله؟

بركان من الغضب انفجر فجأة في صدر سلوى, فصاحت قائلة وهي تحاول أن تداري عينيها عن الشقيقين:
- إنه ليس مجنوناً, هذا ما أعرفه.. فقط هو رجل فقير ومسكين, وهذا هو العمل الذي يجيده لكسب الرزق.. وهو لم يجد وظيفة أفضل ليعمل بها

ضحكت فهيمة وقالت بصوت جاف:
- من جميع هذه الأعمال في الدنيا, لا يجد وظيفة واحدة أفضل ؟
احتدت سلوى وكذلك الأمر بالنسبة إلى فهيمة التي قالت بطريقة مستنكرة لا تخلو من استهزاء:
- ما حكايتك يا سلوى هانم؟ لا نعرف اسم أبيك , ولا نعرف حتى اسم والدتك, وهذه هي أول مرة نلعب فيها معك. ثم نجدك تدافعين عن الرجل الذي لا يتعامل معه أحد
- أنا أفهم جيدًا من الرجل الصالح, ومن الذي ليس صالحاً, هذا كل ما في الأمر

اختنق صوت سلوى حتى كادت أن تطفر الدموع من عينيها لكنها تتوقف وتمسح بدايات دمعتها الصغيرة, فتأخذ فهيمة يد أخيها الصغير, وتقول دون النظر إليها :

- لقد نسينا يا حمدان, لكن حذرنا أبانا من التكلم مع الغرباء

نظر حمدان إلى سلوى نظرة مليئة بالشفقة والحزن, في حين كانت فهيمة تسحبه من يده, فنادت عليهما سلوى لكن فهيمة تجاهلت نداءات الفتاة وزجرت حمدان حتى لا يرد عليها

انهار عالم سلوى فجأة فوجدت نفسها غارقة في البكاء الذي يمزق القلب..أخفت دموعها الساخنة عن نظرها كل الوجوه والصور التي تزخر بها حارة الشرف

لحظتها أقسمت بينها وبين نفسها بألا تلعب مع أحد في هذا الشارع مرةً ثانية


لحظتها انزوت تلك الفتاة الصغيرة وجرت أقدامها إلى منزلها الذي قررت أن يكون جزيرتها الوحيدة بعيداً عن محيط من البشر الذين اختاروا القسوة وانحازوا إلى الإساءة كأنها متعتهم المفضلة

Tuesday, January 2, 2007

مصر في حارة: 6


أم سعاد
" 6 "


اليوم يمرق بسرعة السهم , الساعة أصبحت كالدقيقة , الدقيقة أصبحت كاللحظة, واللحظة لا تنفع



سنية لا يسعفها الوقت ولا الصحة التي هدتها السنوات وغياب الابن حسين لتنتهي من أعمالها بسرعة السهم -مثلما يفعل اليوم- من طهي للطعام وتنظيف للمنزل وتلميع للأثاث المتواضع فتقرر أن تحضر خادمة. كانت أم سعاد أول من خطرت على ذهنها وأول من قررت إحضارها, فهي من أطيب نساء الحارة فضلاً عن مظاهر العافية البادية عليها مما يجعلها قادرة على القيام بأعباء تنظيف المنازل
تربي أم سعاد ثلاث بنات جميلات في سن الخامسة والتاسعة والحادية عشرة, شيماء وفاطمة وسعاد...أما الأم, فهي امرأة تقاوم مصاعب الفقر , بتسامحها مع الحياة ونبل قلبها, وطباعها الهادئة. تحتفظ ملامح وجهها بآثار التعب والشقاء ...وهي وإن كانت لا تهوى أعمال المنزل, فإنها تتحمل متاعب أداء هذه المهام الشاقة نيابةً عن الآخرين للحصول على المال الذي يراوغها فلا تحصل عليه في دروب الحياة بسهولة

لمست سنية اختلافاً كبيراً في المجهود الذي تبذله منذ أن استعانت بأم سعاد لتنظيف منزلها..فها هي أم سعاد تطهو وتنظف وتعد للست سنية القهوة السادة التي تحبها في أوقات معينة من اليوم, فتحتسيها, وتقول لها بلطف بالغ:

- سلمت يداك يا أم سعاد!
- الله يخليك يا ست سنية!
- وكيف حال بناتك؟

تضحك أم سعاد وتقول وهي تحني رأسها:
- بخير يا ست أم حسين, يسلمن عليك وعلى فهيمة وحمدان..زرت البارحة أختي دلال, فطمعت شيماء ابنتي في عروسة ابنتها سميرة آخر عنقود أختي. أخذت شيماء تبكي وتصرخ بشقاوة الأطفال قائلةً :"أريد عروسة مثل التي تلعب بها سميرة ابنة خالتي". لا أعرف أنا ماذا أفعل. هي طفلة عنيدة ونفسها في العروسة

رق قلب أم سعاد وطفرت من عينيها دمعتان، وهي تحدث نفسها عن كم المعاناة التي تمر بها أم سعاد وبناتها بسبب الفقر الذي يحاصرهم كجزيرة وسط محيط صاخب من المطالب المادية

لا تعرف سنية بم تجيب..تمر بينهما فترة صمت كأنها دهر.. ثم تقول في حنوٍ:
- ما شاء الله, ربنا يحميها لك, بناتك مثل الشربات

ما إن فرغت أم سعاد من عملها في المنزل, حتى شكرتها سنية.. وقبل أن تودعها، ضمتها إلى ذراعيها الطريتين, وقالت لها:
- اعلمي يا أم سعاد أنني لن أبخل عليك بأى شيء . اعتبري نفسك أختي.. هل تفهمينني؟
تهز أم سعاد رأسها في حياء بعد أن غمرتها سنية بهذا العطف الذي لامس قلبها

تمضي جمعة, فتأتي أم سعاد لتنظيف المنزل, لتجد في انتظارها مفاجأة أثلجت صدرها.. فقد قدمت لها سنية دمية صغيرة كانت تمتلكها روحية ابنتها المتوفاة في صغرها، وكانت الأم المكلومة تحتفظ بها على سبيل الذكرى في خزانة غرفتها

تكاد أم سعاد تطير من السعادة بعد أن تحقق حلم ابنتها شيماء فتطبع قبلة على جبهة سنية لكنها تعجز عن التعبير بالكلمات، فتبادرها سنية بالقول:
- لا تقولي شيئاً.. أنت في منزلة أختي.. قلت لك ذلك.. أعطي هذه العروسة الصغيرة لشيماء. عديني يا أم سعاد بأن تقولي لي إذا ما احتجت شيئاً.. لا تنسي.. نحن أختان

تلتمع عينا أم سعاد في شكرٍ وامتنان, ثم تنفجر باكيةً بحرارةٍ وتقول:

- الله يخليك يا أم حسين, لا أعرف ماذا أقول.. لا أعرف ماذا أفعل.. شكرًا يا غالية. ربنا يبارك لك في أبنائك ويعيد إليك حسين سالماً غانماً

تبتسم سنية, وتمسح دموع أم سعاد الغزيرة التي سالت من عينيها اللتين عرفتا أصنافاً من الشقاء.. دموع انهمرت بغزارة حتى إن بعضها وجد طريقه إلى خديها قبل أن يسقط على سجادة غرفة الجلوس بالمنزل

كم عرفت تلك السجادة ذات النقوش الشرقية القديمة من دموع في هذا المنزل.. وكانت شاهداً على أحزان سنية وأبنائها
لكنها كانت أيضاً شاهد عيان على لحظات فرح اختلسها أبطال عاشوا في حارة الشرف وسط دوامة الحياة التي لا تنتهي

لم تكن مجرد دمية تلك التي منحتها سنية لشيماء.. كانت قطعة من قلب وذكريات السيدة الحانية بعد وفاة ابنتها روحية.. لكنها وجدت في منحها لطفلة أخرى إحياء لذكرى الابنة الراحلة

كانت الدمية أكثر من مجرد لعبة.. كانت طوق نجاة لعائلة تبحث عن السعادة في عيني طفلة في الخامسة.. بل بدت الدمية حبل إنقاذ لأم سعاد بعد أن شعرت بلحظة انكسار وعجز عن تلبية مطالب ابنتها الصغرى

لكن الفرج يأتي أحياناً.. على شكل دمية