Thursday, November 23, 2006

مصر في حارة: 2



الست سعدية

" 2 "

يتطلع حمدان من شرفة منزله مبتهجًا, بعد لعبه المستمر بجانب أشجار
البرقوق, فها هو يشاهد الفناء الكبير, فينزل مرة أخرى بعد عناء طويل لنيل موافقة رضوان أفندى حتى ينزل, فتراوده فكرة أشرقت لها أسارير وجهه.. وهي أن يحصل على بعض الملبن الشهي من الست سعدية. يقف عند عتبة باب بيتها - الذي يلاصق بيتهم - ويقول بصوت بريء مرتفع:
- أبلة سعدية.. ممكن أدخل؟
- ادخل يا عكروت.. وأغلق الباب خلفك
يدخل بهدوء و إبتسامة رقيقة كانت تعلو وجهه.. يجد الست سعدية تداعب قططها وتمر بيدها على شعرها, فيقول مبتهجًا:
- مساء الخير يا أبلة
- مساء النور يا حمدان يا بطل , ماذا تريد ؟
- بعض الملبن ..هل عندك شيء منه ؟
- عندي بالطبع, خذ يا حبيبي ما تريد و سلم لي على والدتك وفهيمة
- حاضر
يترك حمدان بيت الست سعدية الذي تفوح منه رائحة القرنفل والصابون المنعش..والملبن والحلوى يملآن يديه الصغيرتين, وهي .. هي تستمر في مداعبة قططها والربت عليها
هي امرأة وحيدة عجوز, ليس لها لقب عائلة ولا زوج و لا أبناء و لا أقارب. وربما هي الوحيدة في الحارة بأكملها التي استطاعت كسب قلب جميع أطفال الحارة خاصة فهيمة رضوان التي يصعب عادة كسب قلبها ..وكم رقصت فهيمة بين يديها في طفولتها ولاعبتها .. وكم حكت لها الست سعدية القصص الشائقة التي لم تنسها فهيمة قط
عرفت الست سعدية بروحها المرحة و سخريتها من الحارة ومن فيها وحتى من نفسها ومن الزمن والدنيا . لم تكن تكف عن المزاح وكانت تكثر الغناء خاصة أغنية " الهف يا لبف يا سمك مقلى " أو "يا أبو الشريط الأحمر ". كما تميزت الست سعدية بوجه مليح , قسمات متناسقة, عينين لوزيتين, شعر أسود قصير لا يتجاوز منطقة ذقنها البارزة..كما كانت صاحبة قد نحيل مثير للشفقة بالرغم من إفراطها في تناول الطعام و حبها لمختلف المأكولات
وكانت تتحدث كثيرا مع جميع نساء الحارة.. خاصة مع الست سنية..و تقول :
- كان عندي ابن زى القمر لكنه توفي وهو في الثالثة ومات أبوه أيضا بعد معاناة من روماتيزم القلب. بعدها قررت أن أعيش حياة سعيدة وحدي وانتقلت للعيش في هذه الحارة بسلام .. حفظك الله يا فهيمة .. فهي في منزلة ابنتي
فتقول الست سنية:
- يا رب يا سعدية . لكن حسين يشغل بالي.. فنحن لا نعرف شيئاً عن أحواله. أشعر بالقلق عليه وكم أتمنى أن أرى وجهه ثانية وأضمه إلى صدري
فتقول سعدية و هي تحاول أن تغير دفة الموضوع:
- يمكنك رؤيته في وجه حمدان ابنك. إنه يشبهه كثيراً.. لولا دقة في قسمات حمدان
- لكنه من حيث الملامح نسخة طبق الأصل عن حسين.. كما أنه يشبهه تماماً عندما يضحك. أما فهيمة فلم أر أحداً يفوقها جمالاً .. إنها آية في الجمال والحسن
وينتهي الحوار عادة بضحكة من الست سنية ومزحة من سعدية. قبل أن تنصرف كل من السيدتين إلى حالهما وحياتهما.. يا لها من مفارقة.. فالست سنية يسكن الحزن قلبها لكثرة ما رأت من هموم وعرفت من تجارب مريرة.. أما الست سعدية فهي وإن كانت امرأة وحيدة فإنها تعيش حياة هادئة لا تخلو من لحظات سعادة!

منزل سعدية لا يخلو من القطط والكلاب و الحلوى.. ولعل أكثر ما يميزها أنها محل حب واحترام وثقة الجميع.. فلم يحدث أن تشاجرت أو اختلفت يوماً مع أي من أهل الحارة بل إنها اتخذت من كل بيت صديقة حميمة تتبادل معها الحوار الودي, وهكذا لم يكن يؤذيها أحد بالكلام أو الفعل.. ولم يكن أحد ليغتابها .. لا بائع و لا تاجر ولا صاحب عربة كارو صعلوك ولا فتوة .. بل إنها حظيت بالترحيب من كل أهالي حارة الشرف

وبفضل تمتعها بصحة جيدة بالرغم من السنوات التي تحملها على ظهرها ..كانت تبادر بأداء الأعمال المرهقة التي شاركتها فهيمة فيها أحيانأً .. وحدث ذات يوم أن تقدم للزواج منها رجل في الستين من عمره يدعى حافظ جمال.. لكنها رفضته بأدب وذوق حيث فضلت أن تعيش حياة هنيئة وحدها.. لا ليس وحدها.. وإنما بصحبة فهيمة وحمدان وباقي نساء الحارة العديدات

Tuesday, November 21, 2006

مصر في حارة: 1





عائلة المنياوى
" 1 "
تشرق الشمس بنور وديع وسط السماء الزرقاء الصافية...يتسرب إلى الآذان تغريد البلابل والعصافير في أنحاء الحارة الصغيرة .. تفوح الرائحة الزهرية العطرة التى تولد من رحم الربيع الدافئ..تغفو على الأرض ظلال الأشجار المورقة

أرصفة الحارة الضيقة النحيفة تباع عليها الأحذية الرخيصة الملونة كما تستقر عليها محال الجزار والنجار والبقال والتاجر... يلهو الأطفال تحت أشجار التوت و التفاح ...يركضون ويتنقلون عبر فروعها البنية..البسمة تشرق كالشمس على وجوهم ووجوهن,المرح يملأ قلوبهم والبراءة عنوان قلوبهن

ومن بين هؤلاء الأطفال يلعب حمدان رضوان المنياوي وفهيمة رضوان المنياوي - أخته التي تكبره بخمسة أعوام ونصف العام - تحت ظل شجرة تفاح تتدلى منها حبات الثمرة الحمراء

بفرح وسرور, يتقافز الصغير وتمرح فهيمة ..إلى أن تنادي عليهما أمهما الست سنية من نافذة البيت القريبة من فناء "حارة الشرف", قائلة بنبرة ساذجة معتادة:

- كفاكما لعبًا..البامية و الملوخية تنتظركما

- لم نلعب كفاية يا أمي!
- فلتأكلا ثم عودا للعب مرة ثانية, ولكن يجب أن تأكلا حتى الشبع بعد كل هذا اللعب المرهق!

يوافقان بترحاب، يركضان ويمرحان في رحلتهما من الطريق الضيقة إلى البيت الصغير حيث تفوح رائحة القلي الشهية من مطبخ العائلة

تفتح الأم باب البيت، والابتسامة الحانية تعلو وجهها، قائلةً :

- مساء الخير يا "عكروت" منك لها !
- مساء النور !

تبتسم الأم بسعادة لا سبب لها، ثم تقول متصنعةً الجدية:

- أبوكما يا حبة عيني ينتظركما منذ فترة طويلة ليشارككما الطعام

يعتذران عن التأخير لأبيهما رضوان أفندي المنياوي بتقبيل يده، فلا تظهر أي انفعالات على قسمات وجهه الصارم

يلتفون حول الطبلية الصغيرة فينضم إليهم أبيهم، ونظرة عينيه العسليتين لا تخلو من تسلط وخبث..عائلته معروفة في الحارة، عائلة رضوان المنياوي التي تتكون من رضوان أفندي.. رجل غزير الشعر الأسود ..أفطس الأنف .. صاحب جسد قوي عريض ..طباع متسلطة..على عكس زوجته الست سنية ذات القوام الممتلئ.. والبشرة العاجية والجبهة العالية.. قسمات وجهها المقبولة تضيء كلما اتضحت روحها المرحة

ساقتها الأقدار إلى الزواج من رضوان وهي في سن الخامسة عشرة.. وأنجبت له مع الأعوام روحية وحسين وفهيمة وحمدان .. توفيت روحية من التيفود وهى في السابعة من عمرها, فحزنت عليها أمها حزنًا شديداً..أكثر مما حزن عليها أبوها رضوان الذي لم يكن سعيداً بأن تكون له ذرية من البنات

لكن البسمة المبتهجة عادت إلى شفتي الست سنية مرة أخرى وسكن الفرح قلبها, حيث كانت في شدة الفخر وقمة السرور والتباهي بذريتها وأبنائها الثلاثة خاصة حسين -الذي لاحظ عليه كثيرون النباهة الفطرية والطموح – إضافة إلى فهيمة.. أجمل بنات الحارة

في طفولتها, كانت فهيمة لعبةً جميلة تتخاطفها الأيدي لشدة عذوبتها و جمالها..وفي صباها الوردي لم تكن أي من فتيات الحارة تفوقها جمالاً وجاذبية. بياض بشرتها يضاهي الثلج في لونه..وردية الخدين..صاحبة شعر أحمر طويل كثيف...عينان نجلاوان يسحرك لونهما الأخضر ..شفاه غليظة..قد رشيق...قسمات رقيقة دقيقة...هالة بيضاء تحيط بوجهها الفاتن لولا أنها لم تكتسب تلك الروح المرحة البريئة التي تميزت بها أمها وباقي أشقائها..خاصة حمدان آخر العنقود, لكنها كانت هادئة الطباع وذات طموح, ترى أنها تستحق معاملة أفضل.. لأنها ببساطة الأجمل

كانت لديها أحلام تكاد لا تعد و لا تحصى, وكان أفضل وأطيب حلم بالنسبة إليها هو أن تصبح أميرة النساء, ست الأميرات, أسعد وأشهر امرأة فى العالم بأكمله, وأن تكون محط الأنظار والاهتمام أينما حلت

لكن الحلو لا يكتمل كما يقولون

لم تكمل هي وحمدان تعليمهما في المدرسة الابتدائية.. فقد كانت الدراسة لا تستهويها ولم تكن المعرفة من أولوياتها.. فاختارت ترك مقاعد الدراسة والمكوث في البيت بجوار أمها.. تساعدها وتعلم على يديها فنون وأسرار الطهي.. في حين أجبر عسر القراءة وتواضع القدرة على الاستيعاب حمدان على أن يتسرب هو الآخر من التعليم.. وهو الخبر الذي لم يضايقه البتة, فقد كانت دنياه الواسعة هي الحارة وظلال تكعيبة العنب وأشجار التوت.. في الوقت الذي ظهرت فيه علامات النجابة والنبوغ على أخيهما الأكبر حسين الذي شق طريقه الدراسي بثبات حتى أصبح طالباً مجتهداً في كلية الطب وكانت أيامها فهيمة تقترب من ربيعها الرابع عشر وحمدان في سن الثامنة

وكان الأب, رضوان أفندي, تاجر حرير في الحارة. مفارقة مضحكة أن يبيع الحرير شخص خشن فظ

كل من رآه كان يخشاه لجرأته و حدة طباعه كأنه فتوة.. يلفت الانتباه بصوته الجهوري المرتفع و قسوة تعامله مع أفراد عائلته... حتى أن البعض كان يردد أنه رأى الست سنية و هي تبكى بهدوء أو تشكو لأي من جاراتها الكثيرات فى الحارة فيشفقن عليها, فيما تحكى كل منهن عن كرم ونبل زوجها أو يواسينها بالقول إن هناك "عملاً" من أعمال السحر أصاب رضوان أفندي .. فتندب الست سنية حظها العاثر ..وتبخر رضوان أفندي أحياناً مع أنها كانت تعلم أنه لا أمل في تغير طباعه الشرسة


على إيقاع الرتابة تستمر الأسرة على هذه الحالة المزرية حتى تقع المفاجأة التي لم يحسب لها أي من أفرادها حساباً.. إذ يقرر حسين الرحيل إلى انجلترا بغرض العمل هناك كطبيب

انفطر قلب الأم لدى سماعها هذا القرار .. وانتابها شعور بأن هناك بالفعل من دبر "عملاً" من أعمال السحر لأسرتها, فأخذت تقول باكية لحسين:

- لا تسافر يا حبيبي .. ابق معنا.. أحتاجك بشدة يا بني
- لن تطول الغيبة يا أم حسين وسأعود إليكم بمال وفير
- لا يهم المال يا حبة عيني , أبوك حماه الله , يوفر لنا كل شيء

لكن الطائر يصر على ترك القفص والتحليق بعيداً.. بعيداً

وهاهو حسين يترك حارته ووطنه بأكمله بعد أسبوع من هذا الحديث المؤلم ...فلا تتوقف الأم عن البكاء والولولة..حتى ينهرها بحدة رضوان أفندي:

- لا تبكي يا أم حسين .. ما هذا الحزن المقيم ؟

فترد الست سنية وسط دموعها الكثيفة بالاعتذار قبل أن تتشاغل عن حزنها بسؤال آخر :

- هل تود أن أعد لك الطعام؟

وتستمر الست سنية على هذا الموقف الضعيف, حيث لم يبق لديها في المنزل إلا فتاة وصبى صغير, وزوجها المتسلط الذي يحكم عليها بالتعاسة, فتبكي كل يوم من شدة الألم وتحثها فهيمة على أن تتجمل بالصبر قائلة:

- غداً يعود إليك حسين سالماً غانماً يا أم حسين.. فلا تحزني

أو تقول:

- تذكري قوله عز وجل فى سورة الشرح "إن مع العسر يسرا"... فهناك يسر سيأتيك و يملأ عليك حياتك بعد رحيل حسين. ما عليك فعله هو أن تبتهلي إلى الله من قلبك أن يعيد إليك حسين سالماً ..إن الله يستجيب لدعاء الطاهرات مثلك !

وتمر ثلاث سنوات عصيبة دون رجوع حسين أو أي خبر منه و لا عنه. ويخفف خبر آخر من أحزانها ويداوي بعض معاناتها, حيث يتقدم عريس للزواج من ابنتها فهيمة الجميلة... مدرس لمادة التاريخ, في الثلاثين من عمره يدعى عبد ربه ثابت, ميسور الحال, كانت تعرف الست سنية والدته وترى أنهم أشخاص طيبون و نبلاء

ولكن ها هى فهيمة ترفضه بشدة فتقول لها أمها في محاولة يائسة لإقناعها بقبوله:

- لماذا يا ابنتي.. إنه عريس "لقطة"

- لكنه قصير القامة بشكل واضح ثم إن مظهره ليس جيداً..وأعلم أنه لا يستحقني لأسباب كثيرة

ترفض فهيمة أول عريس لها ..ثم تحتج على الثاني: جمعة الجزار.. الرجل الميسور الذي يمنح بطون أهالي الحارة لحظات من الشبع

ويتوافد كثيرون على المنزل لخطبتها: التاجر والعامل و البائع والصعلوك... لكن دائرة الرفض عندها لا تتوقف كأنها عربة من الشكوى والتذمر

ويزداد جمال فهيمة يوماً بعد يوم .. ولا خبر عن حسين

وكما يزداد جمال فهيمة.. يزداد قلق عائلة المنياوي على ابنهم الذي طال غيابه ولا خبر يطمئنهم عليه

أكان من الضروري أن تسافر يا حسين ؟

فقط لو كنت تعرف ما جزاء سفرك, لم تكن لتفكر في رحلة الاغتراب!